اقتصاد

«حليمة» المملّة!

| علي هاشم

يضع المرء يده على قلبه مع انتهاء مجلس النقد والتسليف من صياغة «معايير الإقراض والتسهيلات الائتمانية» وتمريرها إلى طاولة الحكومة، يزيد جرعة الإثارة، ذلك الغموض الذي لفّ تفاصيل نسختها الأخيرة بعدما أدمج فيها وجهات نظر المصارف الوطنية.
يُنتظر من المعايير الجديدة أن تكون ثورية بحق، وفي الواقع، فالاقتصاد الوطني لن يقبل بأقل من ذلك لاجتياز واديه المظلم الذي خيّمت عليه ظلال الشكوك النقدية والتعثرية، وافترشت دروبه وعورة التعارض بين سياسة انكماشية ما زالت مستمرة، وأخرى توسعية تتطلع إلى الولادة.
ولأن التجريب رفاهية استهلكت حكوماتنا المتعاقبة احتياطياتنا منه حتى آخر رشفة، يجد المرء نفسه مضطرا (للنفخ على لبن) مجلس النقد تذكيراً بما فعله حليب السابقين، فما لم تنجح محددات الإقراض الجديدة في إحداث الثغرة الكافية في جدار التمويل الإنتاجي، سيظهر المجلس كمن مدّد عقوباتنا الذاتية على اقتصادنا، مستعيداً بطريقة مملة دور (حليمة وعادتها القديمة) في إطلاق المنتجات المصرفية الميتة!
من حيث المبدأ، يتوق اقتصادنا الوطني إلى دفق السلع المحلية الحقيقية، خلاصا من الركود التضخمي الذي تعشّق العمود الفقري لأسواقنا إبان انهيار التشغيل نحو درك التمنّع، وخروجا من حفرة العجز التي تتهدد موقفنا النقدي من داخل السياسات الحكومية.. كل ذلك دون الإخلال بالتوازن الهش للنقد السائل في الأسواق.
معادلة التمويل التائهة هذه بين حدّي: التوسع والانكماش، تتطلب اجتراح معايير إقراض خلّاقة لا يحسد مجلس النقد على مهمة صياغتها، فرغم أهمية تحفيز الإنتاج لدى من تعترضهم صعوبات تمويلية، لا تقل حاجتنا إليها لإطلاق كوامن من قضت الحرب على قدراتهم الرأسمالية.
لكن، لأسباب موضوعية تتعلق بأطر العمل المصرفي أولا، وسقوط مصارفنا في مستنقع الخوف جرّاء استعراض القروض المتعثّرة المبالغ فيه لإبراز جدية الحكومة في مكافحة الفساد ثانياً، فلن تستطيع معايير الإقراض المنتظرة الوصول للجميع مهما تمتّعت بالانفتاح، ويا ليت الأمر يقف هنا، إذ حتى المنتجين الذين تعترضهم صعوبات تمويلية في تنمية إنتاجهم، قد لا يكونون هم أيضاً ضمن زبائن المصارف المحتملين!
فعلى عكس القطاع الإنتاجي، ثمة توقعات تتمتع بقدر كاف من المشروعية بأن يتركّز التمويل القادم على صهوة المعايير الجديدة في شق الإسكان على حساب الإنتاج السلعي، تبعاً لما يحتفظ به الأول من استثمارية عظّمتها منعكسات الحرب ودعمت قدرته على تحمّل إجهاد أسعار الفائدة المرتفعة.
من حيث المبدأ، تتناقض أسعار الفائدة الراهنة مع مساعي خطة الإقراض الجديدة للجم التضخّم وخفض أكلاف الإنتاج وتسهيل تدفقه إلى الأسواق الداخلية التي تضجّ بالمستوردات والمهرّبات من جهة، ويعظم قدرته على النفاذ إلى الخارجية التي تضطر الحكومة لتوفير الدعم الاستثنائي للوصول إليها من جهة أخرى.. ومع أسعار فائدة ما زالت ترفض النزول عن شجرة الـ14 بالمئة التي اعتلها ذات يوم انكماشي، سيكون من الصعوبة بمكان تخيّل حصولنا على السلع التنافسية تلك!
السوق لا تنتظر الإقراض فحسب، هذه بدعة ثبت بطلانها أيام «التشغيلي» الذي شيّعته الإدارات المصرفية ببروباغاندا قصر مدة السداد المشكوك في دقتها تبريرا للعجزة عن النفاذ إلى طالبيه، ولهذا، سيبقى الأمل معلقاً على المعايير الجديدة في تجاوز عائق فائدة الـ14 بالمئة بما يسهّل تعظيم القدرة التنافسية للمنتجات باعتبارها قضية جوهرية في أي سياسات تمويلية ترى نفسها «خلاقة وثورية» وقادرة على إنقاذ الاقتصاد الوطني من شفا أزمته الإنتاجية الحادّة.
وإلا، فسيكون على مجلس النقد والتسليف، ومنذ الآن، تخصيص مكان فسيح لركن آماله في مرآب القروض التشغيلية، سيئة التجربة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن