قضايا وآراء

الشعبوية والإرهاب شق زلزالي سياسي يقسم أوروبا شرقاً وغرباً

| قحطان السيوفي 

في مطلع عام 2017، اتفق كثير من الخبراء الأكاديميين والسياسيين على أن الموجة المناهضة للمؤسسة السياسية الغربية، التي شهدتها بريطانيا والولايات المتحدة في عام 2016، وعلى ضوء الشعبوية والإرهاب، يمكن لها أن تبتلع أوروبا القارية في عام 2017، لكن نجاح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برئاسة فرنسا، جعل أوروبا تتنفس الصعداء، وكأن قطار الشعبوية يتعطل في باريس، ما أراح المؤسسة السياسية الأوروبية.
لا يوجد خط منتظم يقسم أوروبا من الوسط، ولكن الصدام بين المصالح والرؤى المستقبلية في دول الاتحاد الأوروبي؛ قد يُنتج شقاً انقسامياً زلزالياً شاقولياً يؤدي لانجراف بعض البلدان في اتجاهين متعاكسين شرقاً وغرباً، ويهدد وحدة الاتحاد الأوروبي.
التباين بين الدفء الذي استقبلت فيه أوروبا الغربية انتصار ماكرون في الانتخابات الفرنسية، والاستجابة الفاترة في أجزاء من أوروبا الوسطى والشرقية، يؤكد اتساع الفجوة بين العديد من دول الاتحاد الأوروبي غرباً وشرقاً.
من المتمردين داخل الاتحاد الأوروبي، رئيس وزراء المجر القومي المحافظ فكتور أوروبان، والذي أعلن عن إنشاء أول ديمقراطية غير ليبرالية في الاتحاد الأوروبي.
الاتجاه الآخر يتمثل بألبانيا ومقدونيا وصربيا ودول البلقان الأخرى، التي تطمح إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وهي لا تزال بعيدة عن الدخول بسبب قائمة متزايدة من المشاكل من التوترات العرقية وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.
من المتمردين أيضاً، زعيم حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا ورئيس الوزراء السابق ياروسلاف كاتشينسكي المناهض للتكامل الأوروبي.
إن فوز ماكرون، يعبر عن القلق تجاه اليمين واليسار، وربما انحياز لـ«الطريق الثالث»، وهو مجموعة من الأفكار والرؤى والفلسفات ذات الطابع التجريبي أكثر مما هو فلسفة واضحة، وتعهد ماكرون باتخاذ إجراءات عقابية على نطاق الاتحاد الأوروبي، في غضون ثلاثة الأشهر من توليه منصبه، ضد بولندا والمجر، وصفه النائب الألماني توماس نورد لصحيفة «فاينانشيال تايمز» أنه «تحذير فارغ».
ربما تكون مجموعة من الدول التي يقودها الغرب في سبيلها لإحداث توسيع في التكامل بين بعضها؛ بشكل ورقة بيضاء أصدرتها المفوضية الأوروبية في آذار الماضي، واقترحت أن يكون الدفاع والأمن الداخلي والضرائب والسياسات الاجتماعية مجالات يمكن التعاون لتطويرها.
ومن الأفكار الأكثر طموحاً، دعوة ماكرون لإيجاد منصب «وزير مالية لمنطقة اليورو» التي يعتبرها رئيس المفوضية الأوروبية تخيلات فارغة؛ ستأخذ المنطقة إلى «غابة خطرة جداً».
على مدى الانتخابات الرئاسية الفرنسية، كانت المرشحة مارين لوبان تربط حملتها باستمرار انتصار الرئيس الأميركي دونالد ترمب في الولايات المتحدة والتصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وحين قتل شرطي في هجوم في باريس قبل أيام فقط من الانتخابات الفرنسية، كتب ترامب في تغريدة: «الشعب الفرنسي لن يتحمل المزيد من هذه الأمور، وسيكون لهذا أثر كبير في الانتخابات الرئاسية»، لكن توقعات الرئيس الأميركي للمزاج الفرنسي لم تتحقق.
كيف يمكن لحكام أوروبا الحاليين التعامل مع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأمنية التي ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر بدعم الإرهاب ومموليه والتي عملت على تعزيز الشعبوية؟
الوضع الراهن في أوروبا ضبابي، ففي الأشهر الأخيرة شهدت القوى الشعبوية المناهضة للمؤسسة السياسية الأوروبية خسائر في النمسا وفي هولندا، والانتخابات الألمانية التي تجري في أيلول ستكون الاختبار الكبير، وتوقع كثيرون حدوث تأييد لليمين المتطرف، لكن استطلاعات الرأي تشير لغير ذلك.
المشهد الأوروبي يشير أن المتطرفين لا يزالون يكسبون مواقع في أوروبا، وأن الوسط يمر بحالة من التفكك، ونسبة الـ34 بالمئة التي حصلت عليها لوبان في الجولة الثانية من الانتخابات تشكل مؤشراً مهماً، وحزب البديل لألمانيا من المرجح له أن يخترق عتبة الـ5 بالمئة اللازمة لتأمين تمثيله في البرلمان الألماني، للمرة الأولى منذ عام 1945.
والوضع يمكن أن يتغير في إيطاليا التي ستشهد انتخابات برلمانية في مطلع العام المقبل، وبشكل عام هناك خياران أمام القوى السياسية إما أن تدافع عن الاتحاد الأوروبي وإما تعد بتدميره.
أما الوضع فمختلف تماما في الشرق، بولندا وهنغاريا واقعتان الآن تحت حكم حزبين وطنيين يشتركان في كثير من الآراء مع الجبهة الوطنية في فرنسا، أو حزب الحرية الهولندي؛ بصورة خاصة، من قبيل الخوف من الإرهاب والعداء للاتحاد الأوروبي والعولمة والإعجاب بالرئيس ترامب الذي قال مؤخراً خلال قمة الدول السبع الأخيرة في جزيرة صقلية الايطالية: إن الألمان «سيئون جداً» لامتلاكهم فائضاً كبيراً في إطار التبادل مع الولايات المتحدة.
رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، يدعي بأن الاتحاد الأوروبي يحقق نموا أفضل ويوفر وظائف أكبر مما هي الحال في الولايات المتحدة، لكن البطالة بين الشباب تبلغ الآن نحو 25 بالمئة في فرنسا، و35 بالمئة في إيطاليا، و40 بالمئة في إسبانيا، إضافة إلى مستويات الديون العالية في كثير من بلدان الاتحاد الأوروبي، وهذا يرجح استمرار انعدام الأمن الاقتصادي الذي يغذي النزعة الشعبوية، مع ضعف الأمن الاجتماعي، الذي يعزز جاذبية الأحزاب الشعبوية، مع عودة الجهاديين الأوروبيين من سورية والعراق، وزيادة عوامل التطرف، ما يبقي أوروبا مُعرضة لخطر الإرهاب، وهذا يعمق مشاعر الخوف.
ماكرون سبق أن قال: إن «اليورو عملة غير مكتملة ولا يُمكن أن تدوم دون إصلاحات كبيرة»، وبقاء اليورو يتوقف حاليا على الخوف من التداعيات الوخيمة للانفصال، أكثر مما هو على التوقعات التي ترى أنه سيُحقق الاستقرار والازدهار، لكن الاعتماد على الخوف يُدمّر الإيمان بالتكامل الأوروبي.
والانتخابات الوطنية تُصبح في هذه الحالة اشتباكات بين المدافعين والمعارضين للوضع الراهن الذي يمتاز بالهشاشة، وأزمة منطقة اليورو أوضحت أن البنك المركزي يجب أن يكون بمثابة مُقرض الملاذ الأخير في أسواق السندات العامة للبلدان المتضررة من الأزمة.
كما أن السياسة النقدية يمكن أن تفشل في تعويض الصدمات السلبية في جميع أنحاء منطقة اليورو، وليس مؤكداً وجود تكامل في السياسة المالية بهدف إدارة مشاركة المخاطر، وتشير ورقة بحث حديثة من المؤسسة الفكرية «بروجل» إلى حجم وأهمية التحوّلات في القدرة التنافسية بين الاقتصادات الثلاثة الأكثر أهمية في منطقة اليورو، ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، منذ إنشاء العملة الموحدة، حيث تُظهر تحسّناً هائلاً في القدرة التنافسية لألمانيا، والجمع بين تحسين القدرة التنافسية والأرباح العالية، أنتج فوائض ضخمة في الحساب الجاري الألماني، ما دفع الرئيس ترامب لمهاجمة الألمان، بالمقابل إذا دُفِعت فرنسا إلى انكماش تنافسي طويل الأمد، فربما تصبح مستقبلاً مارين لوبان الرئيس الفرنسي.
باختصار فإن الشعبوية والإرهاب قد تقسم أوروبا بشق زلزالي عامودي باتجاهين متباينين شرقاً وغرباً، إضافة إلى الخوف والحذر من السياسية الأميركية التي كشفتها تصريحات الرئيس ترامب الأخيرة ضد ألمانيا؛ أكبر اقتصاد أوروبي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن