ثقافة وفن

أنقذوا مواقعنا الأثرية

د. علي القيم : 

 

مشاركاتي الكثيرة في مؤتمرات المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة المعروفة باسم اليونسكو التي تعقد في باريس كل سنتين، وتعد أهم المؤتمرات الثقافية العالمية، أتاحت لي فرصة الاطلاع على جوانب كثيرة مما يثار في هذه المؤتمرات من قضايا وطروحات ونقاشات حول، أهمية العمل الدولي لصيانة وحماية وترميم المواقع الأثرية وأهمية إدراك العالم مدى القيمة الثقافية للمواقع الأثرية، وضرورة الحفاظ عليها للأجيال القادمة، وقد حددت اتفاقية التراث العالمي الموقعة من جميع الدول الأعضاء في اليونسكو ما يعتبر تراثاً ثقافياً:
– الصروح: الأعمال المعمارية، أعمال النحت، الرسوم الصرحيّة، العناصر أو المنشآت ذات الطبيعة الأثرية، النقوش، الكهوف، مجموعات المعالم التي تحمل قيمة عالمية كبيرة من وجهة نظر التاريخ، الفن أو العلوم.
– مجموعات الأبنية: تلك المنفصلة أو المتصلة، والتي بسبب فن عمارتها وتجانسها أو موقعها في الطبيعة، تحمل قيمة عالمية كبيرة.
– المواقع: من عمل الإنسان أو نتيجة مشتركة لعمل الطبيعة والإنسان، لقد كانت المواقع الأثرية أحد أنبل التجسيدات لعبقرية الشعب السوري منذ مليون سنة خلت وحتى العصور العربية الإسلامية المتأخرة، ولذلك ليس غريباً أن تحظى هذه الآثار بمكانة كبيرة في المؤتمرات واللجان والمنظمات الثقافية والتراثية العالمية.. لقد كنت أدرك جيداً من خلال حواراتي واجتماعاتي مع كبار العلماء والخبراء والباحثين والمفكرين أن الذي تم بناؤه عبر الأزمنة والقرون في سورية، هو تعبير ملموس للجمال متعدد الجوانب، وتفرّد لتلك العبقرية الخلاقة المبدعة للفنان العربي السوري الذي قدم نفسه للعالم بأحلى وأجمل صورة عرفتها البشرية.. وكم كان صادقاً وليم هاليغاكس عالم الآثار عندما وقف أمام آثار تدمر وقال: «.. تسمّرت أعيننا على مشهد رائع لكمٍّ كبير من الأعمدة الرخامية.. قد يتوقع المرء أن يرى مثل هذه الآثار الرائعة، إلا أنه لو يصح تكوين تصور للجمال الأصلي للمكان بما نرى من بقايا، فإنني أتساءل إن كانت هناك أي مدينة في هذا العالم تدعي التفوق على مثل هذا الجمال بروعته»..
آثار ومواقع سورية، بما فيها من غنى وتنوع وروعة وجمال وحضارة، تتعرض منذ أكثر من أربع سنوات، للنهب والسرقة والتدمير والتخريب من عصابات القتل والسرقة والسطو المسلح، والغريب ذلك الصمت الدولي الذي لا يليق بحضارة البشر، ولا يعبر عن مكنونات الأثر، الذي يريدون محوه وتدميره..
لقد كان على العالم المثقف والمدرك لعظمة الحضارة المجسدة في آثار سورية، أن يقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة التي تتوافق مع مقولة المدير العام السابق لليونسكو فيدريكو مايو والتي قال فيها: «يجب أن ننظر إلى الأمام ونقدر المستقبل، ونتخذ التدابير الوقائية الضرورية.. التي تشكل واجباً أخلاقياً».
مدير عام الآثار والمتاحف في سورية، في تصريح له قال: «ما يزيد على 750 موقعاً أثرياً تعرض للنهب والسرقة والتدمير والتخريب».. ردود فعل العالم لم تكن على مستوى الحدث المؤلم، ولم تكن على مستوى بيان اجتماع وزراء أوروبا الذي جاء فيه «إن حماية التراث وسيلة لتشجيع التفاهم بين الثقافات، التي هي وصية على الذاكرة الجماعية، وأداة نحو سياسة السلام الضامنة للتنوع، وصانعة لفرص العمل».
يحدثوننا عن الحضارة وضرورة حماية التراث، ويتركون آثارنا ومعالمنا الحضارية العالمية تسرق وتدمر أمام عدسات محطات إعلامهم الذي لا حدود لانتشاره وسطوته، ويبقى المشهد عبثياً، تراجيدياً.. النداءات الهامسة، والنيات الطيبة لا تكفيان لحماية آثارنا ومواقعنا التاريخية والحضارية.. لقد كانت المديرة العامة لليونسكو إيرينا بوكوفا واضحة حين قالت: «إن تدمير الإرهابيين للتراث ليس ضرراً جانبياً، وإنهم يستهدفون التراث بشكل منهجي لضرب جذور وقلب المجتمعات» وطالبت بضرورة اتباع سياسات جديدة من التعاون داخل المجتمع الدولي لردع الإرهابيين، ودعت إلى استخدام الثقافة إلى جانب القوة العسكرية كأداة للرد على أعداء الإنسانية والحضارة والفنون.
دعوات تنبيه الرأي العام التي قامت بها اليونسكو إلى المخاطر التي يتعرض لها التراث الثقافي السوري، كانت جيدة ولكنها بكل أسف لم تحد من أعمال التدمير والتخريب، التي كان آخرها تحطيم ثمانية تماثيل جنائزية تدمرية رائعة، وتمثال «أسد اللات» الذي يعد من أندر واهم الآثار التدمرية والعالمية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن