جنوح الأشرعة… وأسباب الجنوح داخل صفحاته…«جهاد جديد» يشرّح تاريخ الحزب القومي الاجتماعي ومآثر زعيمه وقياداته
إسماعيل مروة :
«جنوح الأشرعة» من العنوان أبدأ هذه المرة لما فيه من دلالة واضحة، فالجنوح اعتراف صريح من قومي اجتماعي منح حياته كلها لمبادئ القومي الاجتماعي بالجنوح، وتغير الأمكنة، سواء كان ذلك بفعل خارجي أو بفعل داخلي، من مؤثرات المحيط السياسي والاجتماعي، ومن داخل الحزب ومكوناته ونهجه، وإن كان في الجانب الداخلي قد أخذ جانب الدفاع والتسويغ حتى عما لا يمكن أن يتم الدفاع عنه، وسأقف عند ذلك، وخاصة عند الديمقراطية حين فصّل الزعيم الدستور على مقاسه بدل أن يؤسس لحزب مستمر يتعاقب عليه بعده أشخاص قد لا يملكون ما يملك! والأشرعة إبحار في عالم الحزب وإيحاء بالمركب الذي يدل دلالة قاطعة على حدود آراء الحزب، وفي ذلك اختيار موفق للعنوان…
المذكرات وأهميتها
منذ سنوات ونحن نقرأ كل يوم لأحد السياسيين أو الحزبيين على تعدد الأحزاب مذكرات وسيراً ذاتية، وأزعم أن كمّ السيرة والمذكرات في العقد الأخير عربياً وسورياً وصل إلى الحدّ غير المتوقع، وبين هذه السير ما يستحق الوقوف عنده لمصداقيته، أو لاقترابه من الصدقية، وبينها ما تحوّل إلى عرض للعضلات والبطولات الجوفاء من كاتبيها، وخاصة إذا كان الشهود من الراحلين، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، فبعض السياسيين العرب كتبوا مذكرات من نسج الخيال، وتقترب من الرواية، ووضعوا فيها ما لا يمكن تصديقه، ولم يمنعهم الحياء لوجود الشهود على قيد الحياة من أن يتجاوزوا كل حد، والأمثلة كثيرة لمن عرفناه خاملاً فأصبح بطلاً، ولمن عرفناه لصاً فصار مقاوماً للفساد، ولمن عرفناه ظالماً فتبرأ من الظلم، وظهر كالحمل الوديع!! هل هناك من حاجة لذكر الأسماء والمؤلفات؟ هي متوافرة وتفنيدها ممكن، وأمام البحث عن خيط الحقيقة لا شيء يمكن أن يكون ممنوعاً أو محظوراً، ومن الواجب أن يعرّى الكاذب، وخاصة في ظل ما تعيشه منطقتنا العربية من أحداث وحروب كانت نتيجة طبيعية لممارسات كتاب السيرة من أي جانب كانوا..!
وهناك سير تاريخية ليست شخصية ولمنهج لا لشخص، والشخص الكاتب يكتفي بدور المدون، ويمّد عنقه شاهداً بين سطر وآخر، وبين صفحة وأخرى، ومن هذه السير ما كتبه الأستاذ الصديق جهاد جديد في (جنوح الأشرعة- مراجعات ومذكرات قومي اجتماعي) الذي يدون مراجعات لقومي اجتماعي، والعنوان الفرعي يحمل سمتين:- المراجعة- المذكرات، فالمراجعات نقد وتقويم، والمذكرات تدوين لسيرة الحزب القومي الاجتماعي، فهل استطاع جديد أن يكون كاتب سيرة مؤرخاً وموثقاً؟ أم إنه لم يستطع أن يخرج من إهاب حزبه وزعيمه؟
لا ابتعاد عن السكة
عقود عديدة وسنوات طويلة مرت على التأسيس، وعلى دخول جهاد جديد في المنظومة الحزبية، وعلى بروز شخصية الزعيم أنطون سعادة، وها هو يوثق المرحلة ويؤرخها، وبداية ومن القراءة الأولى يكتشف القارئ انبهار الكاتب بالمؤسس، ورغم محاولاته العديدة بأن يكون موثقاً، إلا أنه لم يتمكن من أن يكون حيادياً، وهذا فيه شهادة للمؤلف، فهو قومي اجتماعي غير مرتد عن مبادئه، ولم يشأ التشفي من الحزب وتاريخه، ولم يظهر أي نوع من المظلومية، بل بقي محباً للمؤسس والمبادئ، وهو كذلك يسرد من وجهة نظر تتطابق مع رؤى الزعيم، وكل ما سواه مخطئ، وقد يصل إلى رتبة الخائن، وكل ما أقرّه وتصرفه وقاله الزعيم هو من الحق..! ومع هذا التعاطف الذي احترمه إلا أنه سرد الواقع وأسباب الخلافات، وإن انتصر لتيار الزعيم في الحزب، إلا أنه بإمكان القارئ أن يجنح إلى رأي آخر إن أراد.
ولم يمنعه حديثه عن الزعيم أن يتناول الدقائق التي ردّها إلى مصادرها، سواء كان ذلك في الحياة والعلاقات والأسرة والمادة والقيادة، والحقيقة أن جديد جلا الكثير من المعلومات التي لم يقف عندها الذي لا ينتمي إلى القومي الاجتماعي، فكانت الحميمية سفير حب يبتعد عن التنظير السياسي الذي قد لا يكون مقنعاً!
التعرف إلى أفكاره
أول مرة التقيت الأستاذ جهاد جديد في جبلة خلال مشاركتي في مهرجان جبلة الذي تنظمه جمعية العاديات، ولجهاد دور كبير في هذا المهرجان، وفي ذلك اللقاء عرفت شيئاً منه ومن السيدة حرمه، ورأيت اللحمة القوية بين المشرفين على مختلف انتماءاتهم، ولست أدري السبب الذي جعلني أتواصل مع الأستاذ جهاد والأستاذ طه الزوزو صديقه اللصيق، حتى جاءني هاتف من جهاد في 1/9/2010 يخبرني بأن أدونيس سيكون في ثاني أيام عيد الفطر في جبلة، وأحسست رغبة صديقي جهاد في أن أكون موجوداً، لأجلي، وتهيئة للقاء مختلف مع أدونيس، وبالفعل قصدت جبلة ثاني أيام العيد في 11/9، وبعد حادث سير تعرضت له على مدخل جبلة هيأ جهاد الجو في منزله الرابض على البحر، وكان اللقاء الأكثر أهمية في حياتي.. هيأ جهاد أدونيس لجلسة طويلة، واستقرت الأسرة على الشرفة، ولساعات طويلة جلس جهاد بعد أن استأذنت أدونيس بأن أسجل فوافق دون تردد، واحتفظ جهاد لساعات طويلة بالجلوس والصمت، وعيناه تبرقان، إلى أن أخبرنا بأن النادي الذي حجز فيه للعشاء سيقفل أبوابه، فلا بأس من متابعة الحديث هناك… أقول هذا لأن الأستاذ جهاد لم يتدخل بكلمة أثناء الحديث الطويل، ولكنه بحصافة المنتمي اكتفى بالابتسام والرضا عندما دخلت مع أدونيس في محور الحزب القومي الاجتماعي، ولم أكن بحاجة إلى دليل على انتماء جهاد لهذا الفكر، لذلك لم أفاجأ بهذه المذكرات التي تشبه جهاد وشخصيته وآراءه التي يعتقدها، والشبه تام بين المذكرات وصاحبها، وخاصة في المناقشة والهدوء والاستنتاج، والبعد عن الأنا إلا فيما ندر.
مذكرات حزب لا شخص
هل احتاج جهاد إلى نصف قرن ليدون مذكراته؟! هذا سؤال تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ تفاصيل حياته السياسية، لكن القارئ بعد أن ينتهي يدرك أن الوقت له علاقة بالشخصية، فهو لم يفعل ذلك إلا ليكون عادلاً وشاهداً، فقد آثر أفكاره على نفسه، وقام بتدوين مسيرة حزبه على حساب سيرته الشخصية والحزبية! فلم يدّع البطولة والرؤية، ولم يتظلم ويبحث عن دور، لكنه أراد أن يقدم شهادة بعد عمر من الانتماء الذي لم يتغير، وهو بذلك يضرب مثلاً للانتماء، الذي لا يتغير بسبب موقف وممارسات، لأنه أمام فكر أحبه واعتقده، لم يؤثر فيه تغير المواقف والأشخاص!
يقع الكتاب في قسمين، خصص للحديث عن الحزب ورحلته، فلم يبدأ بالشخص الراوي، وإنما أخلص للحزب وزعيمه ومبادئه ورحلاته، فقدم من خلال هذا القسم سيرة للحزب وزعيمه، وقدّم معلومات قلّ أن نجدها في أي كتاب من الكتب التي أرخت للحزب، لذلك جمع المؤلف شتات الكتّاب، وبعض هذه الكتب تنظيرية حزبية لا يستسيغ قراءتها القارئ، وربما لا يعثر عليها، فأقدم المؤلف على تقديمها وتقريبها للقارئ الذي يجهل الكثير عن المبادئ القومية، ومن العنوان كان مخلصاً للزعيم ومبادئه، أنطون سعادة- القضية والفداء، ليعرض للحزب وتأسيسه، من نشأة الزعيم وأسرته، ورسالة أفكاره القومية الاجتماعية، وفصّل في هذه الآراء والمشكلات التي تعرض في مجتمعاتنا من مفهومات: الأمة، العروبة، الطائفية، الديمقراطية، ثم جال مع الحزب وزعيمه في ميادين العمل في الداخل والخارج.. ولعلّ المسكة الأدبية والشعرية هي التي دفعت المؤلف إلى وقفة أدبية مميزة عند شعراء المهجر وتأرجح مواقفهم من الزعيم ومبادئه تبعاً للظروف السياسية وحتى لا يتحول الكتاب إلى دراسة نظرية تنظيرية في الحزب القومي الاجتماعي، ويصبح نظرة مراقب بحيادية، يتحول المؤلف في الجزء الثاني من الكتاب إلى الدخول في جوهر العلاقة بين المؤلف والحزب الذي آمن به، سياسات متعثرة وذكريات مرة.
خزان الحزب سورياً
يقدم المؤلف علاقته بالحزب ابتدأ فيها من صفحة 163 ليجول بنا في آليات الاجتماع والانتساب، وفي المواقع التي مثلت خزان الحزب من الناحيتين الفكرية والانتماء، ففي قرى ومدن الساحل السوري يجول المؤلف ليبين أن هذا الحزب أخذ مساحة كبيرة مناطقية، وحاز رضا الشباب والمثقفين آنذاك، وكانت منطقة بستان الباشا المنطقة الحيوية لنشاط الحزب وكوادره وقياداته، ويشير المؤلف إلى أن أرملة الزعيم أنطون سعادة حضرت إلى بستان الباشا، والتقت كوادر القيادات المحلية، والمنتمين إلى الحزب القومي الاجتماعي، ويذكر للمؤلف هنا أنه جعل تطوافته هذه شاملة، فقد تعرض للحركة التعليمية والثقافية والتعليمية، بل تعرض للمدارس الرسمية وتأسيسها وولاءاتها، والأسباب التي دعت إلى تأسيسها، لما لها من دور في تثقيف الإنسان وتعزيز الانتماء الحزبي لديه، وراقتني إشاراته إلى أن الخصومة الحزبية بين أبناء المنطقة الواحدة لم تجعلهم أعداء على الواقع، بل إن المؤلف أظهر المنافسة الطيبة بين أبناء المنطقة المنتمين إلى تيارات سياسية حزبية متضادة..!
ومن خلال انتمائه إلى الحزب القومي الاجتماعي، عرض المؤلف لسيرته وسيرة النشاط داخل سورية وخارجها، خاصة من خلال رحلته في الإعارة إلى الجزائر، لتترافق رحلته إلى الجزائر في التعرف إلى القيادات الأخرى، وإلى البلدان الأخرى، وإلى رحلة التحرر العربي، وكذلك وقف عند الإخفاقات العربية السياسية من نكسات إلى ما أكثر وما دون ابتداء من نكسة حزيران وما خلفته في نفس المنتمي.
النقاش والاعتراف بالخيبة
ابتداء من العنوان يعترف الكاتب بالجنوح، وابتعاد الأشرعة عن المسار المحدد لها في لجة بحر السياسة، ومن ثم فإن متابعة الكاتب لمسيرة الحزب وزعيمه المؤسس ورحلاته، تظهر التصدع والجنوح، ووجود أجنحة حاولت الخروج عن الإطار الذي رسمه الزعيم، وانتهى الكتاب بتأكيد الاعتراف بالواقع «فسوف تكون القيادة لهؤلاء الشباب الأصفياء الذين سيمنعون جنوح الأشرعة القومية الاجتماعية، والذين سوف يعيدون للنهضة قوتها واستقلالها ثم يبحرون على سفن الضوء نحو المستقبل» فالجنوح بدأ مبكراً، ولكن إيمان المؤلف بحزبه جعله يأمل بضوء المستقبل، وبالشباب الذين يملكون الصفاء، فهل يكون ذلك؟
وعلى الرغم من كل الحياد والقومية الاجتماعية المتوقدة، إلا أنني أخذت على الصديق جديد ذلك الانسياق وراء ما يفعله الزعيم وخطط له، فأي قرار أو رؤية هو الصواب، والتمسك بالرأي والتفرد بالقرار لا يرى فيه أي خروج عن الديمقراطية، كأن مفهوم العصمة انتقل إلى الزعيم! إن الانتقاد لا يخفف من مكانة الزعيم المؤسس، ولا يقلل من قيمته التي جعلته واحداً من أهم شخصيات القرن العشرين، ولنقرأ مثالاً واحداً يدل على انحياز الكاتب لزعيمه من دون النظر إلى الآخرين، بل يجد المسوغات للزعيم «إن زعيم الحزب، هو قائد قواته الأعلى، ومصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية، وله وحده، الحق في تعديل الدستور، مهما كان الأمر مصيرياً، وله وحده الحق في تعيين أعضاء المجلس الأعلى وتعيين العمد، وفي منح رتبة الأمانة، أو إلغائها، وله الحق في الزعامة لأنه صاحب الدعوة، والمعلم والمشرع والأكثر إيماناً بها وغيرة عليها» ويضيف معلقاً، وكأنه يجيب السائل: «لكن هذا الحكم المطلق الذي يظهر سعادة ديكتاتورياً، هو في حقيقة الأمر غير ذلك، لأن سعادة حين أسس الحزب، دعا مواطنيه للانضمام إليه على مبدأ التعاقد الحر، فأقبلوا مختارين، وقابلين بزعامته المطلقة وقيادته المنفردة»!
فالتأسيس منح سعادة أبوة الحزب وملكيته، والتعاقد الحر يعني الإذعان للمطلق!! أليس من حق قومي اجتماعي عتيق أن يرى في الأمر رأياً مخالفاً؟!
«جنوح الأشرعة» كتاب مهم، وواضح في مسيرة الحزب القومي الاجتماعي لأحد أعضائه القدامى، وهو ما يزال على عهده للزعيم.