قضايا وآراء

غربان الموت في سماءِ الخليج: حبل النجاة «صنع في سورية»

| فرنسا – فراس عزيز ديب 

الرئيس بشار الأسد يزور معرض «صُنعَ في سورية». دعكم من طريقةِ وصوله كأي زائرٍ، وبساطة تواصله مع الحاضرين. دعكم من العبرةِ أن في سورية وبعد سنوات الحرب لا يزال هناك منتجات وبضائع ممهورةٌ بختمِ «صنع في سورية»، لكن الحقيقة أن ليس كل ما «صُنع في سورية» هو مادةٌ قابلة للعرض بتاريخِ صلاحيةٍ ومكونات تصنيع؛ «صُنع في سورية» هو الشعور بأنك مُنتم، ولست على هامش الزمن. شعور يبدأ بالثقة التي تشاهدها بابتسامةِ رئيسٍ يحاربه الكون لكنه يتحصن بمحبة شعبهِ، ويمر بالإصرار الذي بدا بعيني تلك الطفلة التي صورها الزملاء في «الوطن» وهي تدرس وترسم بيد وتبيع «البسكويت» والتفاؤل باليدِ الثانية، لينتهي بكَ المطاف عند إنجازات شجعان هذا العصر على كامل التراب السوري. الانتماء الصادق لوقائع كهذه هو المعنى الحقيقي لعبارة «صُنع في سورية»، هل هي الرجولة أم الانتماء أم أكثر؟ ربما هي مجموعةَ عناوين نختصرها بكلمةٍ واحدة لنقول عنها «صُنع في سورية»: إنها الكرامة.
الكرامة في الإطار العام مصطلح شامل للعديد من القيم، أهمها أن تكون ذا مبدأ، والمبدأ لا يتجزأ لأنه الأساس الذي تبني عليهِ مصداقيتكَ أمام الآخرين، تلك المصداقية التي تنطلق من مفهوم أساسي بأنك لا تتلون باللون الذي يناسب المرحلة. لكن في المقابل هناك من يتساءل ممتعضاً:
وهل الزمن الذي نحن فيه هو زمن المبادئ تحديداً وسطَ ما نعيشه من دمارٍ وخراب ليس في سورية فحسب لكن في العالم كله؟ لا يبدو أننا مضطرون أن نجيبَ جواباً تقليدياً بأن العيب ليس في «الزمن»، لكن الجواب على كل هذه التناقضات واضح: ما ينتظرنا ليس أسوأَ مما مر بنا، لكن في كلا الحالتين لا تقل لي ماذا جرى لنا نتيجةً لهذه الثوابت، بل قل لي كيف كانوا سيصلون إلى مرحلةٍ يتناهشون فيها بعضهمْ البعض، لولا التمسك بالثوابت؟ فما الجديد؟
كما قلنا منذ أسبوعين إن ما يجري بين مشيخات النفط سيكون دراما رمضانية مسلية، وهي فعلياً لم تخذلنا حتى الآن، بل إنها تحولت إلى صراعٍ أقل من دولي، وأكثر من إقليمي. لم يشفع للقطريين الكلام الأميركي عن ضرورةِ إنهاء الحصار وإيجاد حلٍّ ديبلوماسي للأزمة، لأنه تزامن مع تحميل القطريين وحدهم مسؤولية دعم الإرهاب في المنطقة والعالم. الأمر أشبه بجريمةٍ ارتكبها شركاء، ولكي ينجو من ينجو حانت الفرصة لإيجاد كبش فداء يتحمل عنهم المسؤولية. الأمر أشبهَ بجرائم الفساد الكبرى التي تُرتكب في سورية، عندما كان يتم تحميل المسؤولية للحلقاتِ الأضعف على حين ينجو الرأس المدبر وأصحاب الصلاحيات بفعلتهم.
على هذا المنوال يحاول «آل سعود» ومعهم «سيسي مصر» تعويم المشيخة القطرية وكأنها الداعم الوحيد للإرهاب، حتى اللائحة الاسمية التي صدرت، فإن المصريين تحديداً أثاروا من خلالها تساؤلات مهمة: أليس شيخ الفتنة «يوسف القرضاوي» ذات نفسهِ حاصل على إشادات المؤسسة الدينية الوهابية؟ ألم يُفاخر أمير قطر المعزول عند افتتاح أكبر مسجد في الدوحة في العام 2012 بأن قطر ستبقى وفية للمذهب الوهابي وهو كلام أثنى عليهِ القرضاوي ذات نفسه؟ أكثر من ذلك: ألم يتشارك شيوخ الوهابية مع القرضاوي التصديق على نص مسلسل «القعقاع بن عمرو التميمي» الذي أراده القطريون شخصية ينتهي إليها نسبهم رغم أنه لا وجود حقيقياً لها، لدرجة وصفهم له بأن «جعيره في المعركة بألف رجل»؟ هل أن تكفير الوهابية للقطريين حتى بجواز صيامهم رمضان كون «آل سعود» غير راضين عنهم يشمل كذلك كل من لا يرضى عنهم «آل سعود»، عندها سنبارك للمصريين جواز صيامهم لأن لديهم قيادة يرضى عنها أشرار هذا العصر؟ لماذا لا تتجرأ مصر على قول الحقائق كما هي بأن الإرهاب يتساوى فيه كلا المشيخيتين؟ لكن بواقعيةٍ تامة يبدو حتى الآن أن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، فالنظام القطري أثبت بطريقةٍ ما أنه ليس وحيداً، وأن ما يتم الكلام عنه من إمكانية إسقاط النظام القطري حتى بالحرب له محاذير كثيرة وليست بالسهولة التي يتعاطى بها البعض، فكيف ذلك؟
لم يكن غريباً أن يعلن النظام التركي تأييده الكامل للنظام القطري، لكن في الوقت ذاته لا يمكن لنا أن نتظاهر بالتفاجؤ من الموقف الإيراني تجاه ما يجري لأنه لا يأتي نكاية بـ«آل سعود» فقط، لكنه التزام بالعلاقات القوية بين قطر وإيران التي لم تتأثر يوماً تحديداً في زمن الرئيس روحاني. لكن ومن وحي ما يجري لا يبدو أن الدعم الذي يريده القطريون في هذه المحنة يتجسد بفك الحصار الاقتصادي، المشكلة هل أن الأتراك والإيرانيين جاهزون للدفاع عن قطر عسكرياً في حال قرر «آل سعود» المغامرة؟ في الواقع هناك ثلاثة احتمالات:
الأول أن ينسحب الطرفان من المواجهة وترك القطريين يواجهون مصيرهم؛ عندها عليهم أن يعلموا أن الخليج بالكامل سيكون خاضعاً لحكم «آل سعود» وقطر هي البداية، فهل سيمنحونهم هذا المد؟
الاحتمال الثاني أن تنسحب إيران عند ارتفاع أسهم المواجهة العسكرية، ليبقى التركي والقطري يواجهون مصيرهم وحيدين، عندها أياً كان المنتصر فإن إيران ستكون الخاسر الأكبر لأنها فعلياً تغامر بعمقها الإستراتيجي في مياه الخليج.
الخيار الثالث أن يذهب الأتراك والإيرانيون حتى النهاية في معركة الدفاع عن قطر، عندها سنعي تماماً أن كل ما يجرى هو مجرد فخ لا أكثر الهدف منه النيل مما تبقى من دول هذه المنطقة.
الواقع أن أي الخيارات إن حصل فسيكون ثمنه باهظاً، بل الواضح أيضاً أن «غربان الموت» بدأت تحوم فوق المنطقة. منذ وصول الرئيس الأميركي للسلطة قلنا إنه من الغباء التعاطي معه كساذج لا يعرف ما يجري، لأنه بالنهاية أذكى مما يظن البعض، والنتيجة الآن ماثلة أمامنا وجديدها أننا قد نصل إلى مرحلةٍ سيكون فيها مواجهة (مصرية إيرانية)، عندها سيدخل الجميع في حلقة مفرغة فإذا افترضنا أن الإيرانيين والأتراك يمثلون معاً تحالف «الإسلام السياسي»، فإننا لا نستطيع أن نقول إن مصر تمثل الاتجاه العلماني الأكثر تحضراً وهم يحالفون أكبر نموذج متطرف والمتجسد بالوهابية السياسية في معركة لن يكون هناك خاسر ومنتصر، الجميع سيكون خاسراً، أساساً من يخطط ويدير هذه المعركة لا يريد وجود منتصر، يريد فقط الاستمرار في الفوضى، لكن أين الروس من كل ذلك؟
لا يبدو أن الروسي الذي لم يتوان يوماً عن بث الروح في النظام التركي بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط سيتوانى عن التعامل بالمثل بما يتعلق بالملف القطري. هو لحد الآن يدعو للتهدئة لأن الأمور لم تخرج عن سياق الحرب الدبلوماسية، لكن مع تدهور الأوضاع لا يبدو أنه سيتعاطى بحياد، فالقصة ليست فقط تأديب «آل سعود» لمغامرتهم بأسعار النفط بهدف إضعاف الروس، لكن القصة متعلقة بإلقائهم كل أوراقهم في عهدة ترامب، موقف لا يمكن للروس أن يمرروه بهذه البساطة ومن يفهم السياسة الروسية جيداً يعرف أن الروسي يتابع بصمت لكنه يعرف متى يتدخل، فماذا ينتظرنا؟
نعود لمصطلح «الاستثمار في الفوضى»، الأميركي لم يكذب عندما قال لـ«آل سعود» لا تنتظروا حمايتنا، لكنه بالمقابل سيغطي أي إنجاز يحصلون عليه حتى لو كان ثمنها حروباً جديدة. لن يقبل أبداً بهدوء الأوضاع في المنطقة بما فيها الملف السوري. حتى وصول القوات السورية إلى الحدود العراقية بما فيه من استفزاز وتمرد عما يريده الأميركي فإنه لا يبدو بواردِ تمريره بهذه السهولة تحديداً أن القوات السورية نجحت بمحاصرة الميليشيا التي يدعمها الأميركيون بطريقة تجعلهم غير قادرين على التمدد، بل إن بيان القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة كان واضحاً بأن التراجع ممنوع وما سبقه من تأكيد روسي بأن حق السوريين بالدفاع عن حدودهم لا جدال فيه، لأنهم يدركون أن الأميركي عبر هذه البؤر ما زال يبحث عن الفوضى التي قد تطول الجميع. في كل مكان زرع الأميركي هذه البؤر التي تجعل من حمام الدم مفتوحاً دون توقف، حتى باتوا كالضباع يتناهشون بعضهم بعد أن كانوا شركاء في القتل والخراب، وحبل النجاة الذي يلوح به الأميركي للبعض ما هو بالحقيقة إلا حبل المشنقة الذي يلفه حول أعناقهم؛ لأنهم لم يعوا حتى الآن أن الجلاد لا يمد لك حبل النجاة، حبال النجاة في كل هذه الفوضى التي تضرب أطنابها هي فقط تلك الممهورة بختم الكرامة وقد كتب عليه: صنع في سورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن