ثقافة وفن

محمد نعيم عناية الرجل الذي قاتل دفاعاً عن البرلمان ولم نعرفه!

| شمس الدين العجلاني

نحن الآن في رحاب ذكرى المجزرة الفرنسية بحق البرلمان السوري، هذه المجزرة التي ارتكبتها «فرنسا العظمى»، ليس لها مثيل في الإرهاب والظلم بحق معقل الديمقراطية.
ونحن قد اعتدنا منذ عشرات السنين أن تطالعنا الصحف والمجلات والفضائيات والإذاعات السورية في التاسع والعشرين من أيار من كل عام، بتحقيقات ومقالات مكررة «نكرر نفسنا» ولا جديد بها، ولم نكلف نفسنا عناء البحث والتدقيق والتوثيق العلمي لهذه المجزرة الفرنسية!

حسب ما أرى أن المؤسستين المعنيتين مباشرة بهذا الحدث الجلل هما، مجلس الشعب، ووزارة الداخلية.. ومجلس الشعب ومنذ القديم ليس لديه وثائق عن هذه المجزرة، ولم يقم بأي عمل ضمن مبنى البرلمان لتخليد هذه الذكرى، بل على العكس تماماً، كان هنالك «ماكيت» نموذج مصغر لمبنى البرلمان بعد القصف الفرنسي ولكن نحو عام 2006م لم يعد موجوداً!

أما وزارة الداخلية فحسب ما أعرف لديها وثائق حول مجزرة البرلمان.. ولكن!
المهم في الأمر هنا، أن أدبيات مجلس الشعب «وليس هنالك وثائق حول ذلك إنما متعارف عليه في أروقه المجلس»، ووزارة الداخلية، وطبعاً وسائل إعلامنا وصحفيينا «وأنا كنت واحداً منهم» يكررون ما اصطلح على تسميته الشهيدين الحيين، وهما من حامية البرلمان السوري، الأول إبراهيم الشلاح والثاني محمد مدور، وأن عدد أفراد حامية البرلمان كان 28 عنصراً من الدرك والشرطة.. فهل هذا العدد صحيح!
ونحاول إعادة قراءة الاعتداء الفرنسي على البرلمان السوري.. ونعرف الشهيد الحي محمد نعيم عناية.

محمد نعيم عناية
لم يعرف الكثير عن الحاج محمد نعيم عناية «كما عرف بهذا الاسم بدمشق حينها» سوى أنه كان عسكرياً سابقاً، وأنه كان يعمل سائقاً على أوتوبيس «باص» في قرى دمشق، وعندما علم بإجراءات المحتل الفرنسي ضد دمشق ترك عمله والتحق بحامية البرلمان.
هو جَسِيمُ البَدَنِ، ذو لحية خفيفة الشعر، وله شارب، تدل ملامحه على الرجولة والعزيمة.

عناية يصف المجزرة
يقول عناية في وصف المجزرة الفرنسية: كنت أعمل في القرى القريبة من دمشق وعلى أثر الحوادث رجعت إلى دمشق حيث وزع رجال البوليس عناصر الحامية على فئات، استلم كل فئة وكيل ضابط.. وكان الضابط المسؤول عن الفئات الثلاث الرئيس شفيق مملوك، ولما كنت عسكرياً قديماً فقد وضعوا تحت إمرتي خمسة من رجال البوليس: وكان مركز عملنا في البرلمان.. وكنت في حراسة الحديقة الخلفية للبرلمان، وفي ذلك اليوم عندما بدأ إطلاق النار تركت الحديقة مع زملائي وركضت على الشارع لأدخل إلى بناء المجلس النيابي، وفي الطريق وجدت امرأة في الأرض تصرخ فحملتها والرصاص يتطاير فوق الرؤوس ووضعتها في طاحونة قريبة وعدت إلى المجلس.
​كانت حراستي عند إحدى النوافذ مع زميلين من زملائي فأصيب زميلي حكمت تسابحجي (وهذا عكس رواية العقيد غازي بأنه كان طبيباً – الكاتب) بضربة رشاش ورأيت زميلي الآخر الشهيد شحادة الأمير وقد أتته قنبلة في رجله ورأيته بعيني يفصلها عن جسده بيده لشدة ألمه.. فوضعت الجريحين في إحدى الزوايا وأخذت أنادي حتى يأتي من يساعدني.. وصعدت إلى أحد رجال البوليس فحملت على ظهري الجريح تسابحجي.. فإذا بطلقات نارية من النافذة تصيب الجريح الذي أحمله ففارق الحياة!
​وفي هذه الأثناء سمعت أصوات السنغال وهم يهتفون ويتقدمون نحو بناء المجلس.. وعندها لا أعرف من أين أتتني تلك القوة الجبارة فدفعت الباب، فتح وصعدت منه إلى سلم يؤدي إلى سطح مبنى جديد كان يقام إلى جانب البرلمان.. اختفيت تحت الأخشاب الممدودة على السطح.. إذا بدورية من ستة رجال تصعد السطح وبيدهم الأنوار الكشافة ومروا فوق جسدي وأنا لا أتحرك، وداس أحدهم بقدمه على يدي وعضضت بأسناني على ردائي حتى لا أصرخ وبعد أن نزلوا ركضت واختفيت في برميل ماء.. ظللت في الماء لمدة ساعة، فلم أعد احتمل فخرجت، وأخذ صوت من الحديقة ينادي: -​سلموا أنفسكم.
سمع النداء سبعة من رفاقنا نفدت ذخيرتهم فخرجوا وسلموا أنفسهم، فأتى الضابط الفرنسي وأخذ يطلب من كل منهم أن يقول «فيف ديغول»، ثم يسحب المسدس ويطلق عليه الرصاص ثم يأتي السنغال ويدخلون الحراب في صدره وظهره.. ويهوون بالساطورة الحديدية على رأسه.. ولم أكن أسمع إلا الصراخ وكلمة: «اللـه أكبر».. وبعد أن قتلوهم جميعاً أتوا بصفيحة بنزين وأحرقوهم.. وكم تمنيت أن تأتيني رصاصة قاتلة لأنتهي من رؤية هذه المناظر الوحشية المخيفة.. وسمعت اثنين يقول أحدهما للآخر غداً سنحرق البرلمان.. وقلت في نفسي إذاً سأموت خوفاً.. لا.. الأفضل أن أموت رمياً بالرصاص.. فصحت أريد أن أسلم نفسي.. قال أحدهم: أين أنت؟ قلت هنا.. ساعدني لأتقدم فأنا لا أرى الطريق.. واقترب وأخذ يفتشني ووجد بيدي خاتما ذهبيا فسحب موسه ليقطع إصبعي، ولكنني أخرجته له بأسناني.. وفتشني وأخذ مني أوراقي وكل ما أملك.. وقال امش أمامي.. ومررت بجثة الشهيد طيب شربك والشهيد سعيد القهوجي مقلوبين على نافذة وعيونهما وآذانهما وأنفاهما مقطوعة ومقلوعة.
​ثم ساقني إلى الشارع حتى وصلنا إلى قيادة الجيش الفرنسي.. وهناك سألوني:
-​لماذا أطلقتم علينا النار؟.
-​لسنا نحن بل أنتم أطلقتم أولاً.
-​أنتم بدأتم أولاً.
-​لا والله أنتم بدأتم.
فسحب المسدس وقال: أنتم بدأتم بإطلاق النار.
​فقلت: نعم نحن!.
​وأخذ يسألني عن أماكن بيوت السياسيين وعن مراكز التجمعات الشعبية.. فقلت له:
-​والله أنا كنت في القرية وأتيت إلى هنا رأساً وأنا لا أعرف شيئاً.. فرفسني برجله من أعلى السلم إلى أسفله.. وجاء الجنود وأخذوا يضربونني بأقدامهم، ثم ساقوني إلى غرفة وجدت فيها بعض الأسرى مثلي ومنهم الرئيس شفيق المملوك» وحسب هذه الشهادة المملوك لم يستشهد ضمن البرلمان – الكاتب «والملازم محمد سموني» وهذا الاسم لم يرد ضمن حامية البرلمان – الكاتب »..
وفي الصباح أخرجنا ضابط فرنسي وقال:
​امشوا خلفي واحداً واحداً.
​وسألني في الطريق:
​- أنت كنت عسكرياً؟.
​- لا.. كنت تلميذاً.
​- كل هذه المصائب منكم أنتم يا تلاميذ المدارس.
​وأركبنا في سيارة نقل، فوجدت فيها أصابع الأيدي والأرجل والعيون المقلوعة وبقايا لحم رفاقي القتلى!.
​وسارت بنا السيارة إلى قلعة المزة، حيث قالوا لنا: إننا خنا حكومة فرنسا ولذلك فقد حكم علينا بالإعدام، وسينفذ فينا الحكم صباح غد.
​وفجأة، وصل جندي فرنسي على موتوسيكل وأخبرهم أن أهل جبل الدروز قد قبضوا في ثورتهم على بعض كبار الضباط الفرنسيين.. وأعلنوا أنهم سيعاملونهم كما يعامل الفرنسيون الأسرى من العرب.
​فلم ينفذ فينا حكم الإعدام إثر ذلك الإنذار، وفي اليوم التالي على حين أنا أنقل بعض الأشياء في حراسة جندي فرنسي، إذ جاء ضابط إنجليزي ومعه أحد جنودنا، ورأيتهما يتقدمان نحوي، فركضت عليهما.. فعانقني زميلي.. والتفت إلى الفرنسي وأنا أكاد أجن من الفرح وبصقت في وجهه.
​وعدنا من المزة إلى دمشق.. وشعرت عندما رأيت بساتين الشام كأنني عدت الى الحياة من جديد.. ووجدت أهلي عند الباب يبكون.. وأخذت أعانقهم وأبكي.

و بعد
محمد نعيم عناية، حين ناداه الواجب ترك أهله وعمله والتحق بحامية البرلمان وقاتل المحتل الفرنسي وبذل الغالي والرخيص دفاعاً عن الوطن.. محمد نعيم عناية رجل مضى.. ولن ننسى رجالنا الأشداء الذين يدافعون عن سياج الوطن.. حماة الديار عليكم سلام.
​المراجع: مجلة صباح الخير المصرية عام 1958م – مجلة الجندي عام 1958م- أرشيفي الخاص.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن