قضايا وآراء

قارب يسير بعكس التاريخ

| عبد المنعم علي عيسى

على الرغم مما شهدته جولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخارجية الأولى في الثلث الأخير من أيار المنصرم من محطات مهمة، إلا أن محطتها الأهم كانت بالتأكيد بين رام اللـه وتل أبيب، لأنه ومهما قيل وبغض النظر عما جرى ويجري، فإن فلسطين لا تزال قضية المنطقة المحورية، أما عمليات إبعادها عن ذلك الخندق الجارية حالياً، فهي تحتاج إلى أجيال وأجيال يجري نسف وعيها وإحلال آخر مكانه، وهو ما يتطلب بالتأكيد جهداً ووقتاً وتسويق إيديولوجيا وثقافة وزمن لا يمكن اختصاره.
أراد ترامب أن يستبق زيارته للأراضي المحتلة بإزاحة جميع العوائق التي يمكن لها أن تقف في طريقه وصولاً إلى هدفه أو تلك التي يمكن أن تشكل دريئة يمكن التصويب عليها، مثل رفضه لزيارة متحف الهولوكوست المقام بجانب قرية دير ياسين، أو رفضه لأن يرافقه أي مسؤول إسرائيلي إبان زيارته لحائط البراق أو لحصن قسادا الذي يوثق «البطولات» اليهودية عبر التاريخ.
كانت عملية التحرر من تلك العوائق قد منحت ترامب قدرة هجومية عالية تجلت بوضوح في طريقة تعاطيه مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس عندما صرخ بوجهه قائلاً: «إنك خدعتني في واشنطن»، ومن ثم بدأ يكيل له الاتهامات بدءاً من دعم الإرهاب عبر دفع الرواتب للسجناء السياسيين أو المبعدين إلى غزة، وقد جرى توقيف كل ذلك في الخامس من الشهر الجاري، وصولاً إلى ممارسة سياسات من شأنها أن تكون لها تداعيات سلبية على عملية السلام بحسب ترامب، والطريف في الموضوع أن هذا الأخير كان قد شاهد قبيل لقائه بمحمود عباس، شريط فيديو تأليف وإخراج مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وفيه تصريحات للعديد من القيادات الفلسطينية ضد إسرائيل بمن فيهم عباس الذي يقول في الشريط: «نعم إننا نحرض»، وعلى الرغم من أن الرئيس الفلسطيني أنكر الشريط واصفاً إياه بالمفبرك، إلا أن ذلك لم يؤد إلى تحسن في موقعه الدفاعي الذي بدا هشاً بل وقابلاً للانهيار أمام البلدوزر الأميركي.
ما يهمنا هنا هو أن ترامب أعلن في ختام مباحثاته مع الفلسطينيين والإسرائيليين بأن «جولته قد نجحت»، ولربما التوصيف هنا ينطبق على ما جرى في رام اللـه تحديداً، ففيها استطاع هذا الأخير تحطيم دفاعات عباس وتهشيم خط بارليفه وصولاً إلى انتزاع موافقته على بياض للانخراط في تسوية سياسية تسير كيفما شاءت الأقدار لها، والأهم أنها بعيدة عن «الشروط» أو المرجعيات ذات الاختصاص.
كانت قمة الرياض بزعامة سعودية، قد زودت ترامب فيما هو مقدم عليه، بشيك عالي القيمة، وهو كاف كما يبدو، لشراء ما يحتاجه في السوقين الإسرائيلي والفلسطيني، الأمر الذي دفع به إلى الإعلان «عن وجود فرصة تتوافر الآن لإنجاز سلام شامل في الشرق الأوسط»، وكذا فعلت قطر التي دفعت بحماس إلى إعلان وثيقتها السياسية الجديدة في الثاني من أيار الماضي وانقلبت فيها على تاريخ عمره 29 سنة واضعة نفسها كقوة تحت تصرف السلام الإسرائيلي.
قد تكون الأرضية التي ينطلق منها الفلسطينيون الآن ناجمة عن واقع يشي بابتعاد مصر وخسارة العمقين السوري والعراقي إلى أجل غير مسمى، ولربما هناك من ضمن الفلسطينيين من يبرر تلك المواقف المتراجعة بالقول: إن المعطيات الحاصلة هي التي تفرض ذلك التراجع، إلا أن التسوية بالمعيار التجاري، وهي أضحت كذلك بعد انتفاء المعيار السياسي والأمني كخيار أول، تبدو خاسرة انطلاقاً من حدوثها في ظل هذه التوازنات القائمة حالياً سواء أكانت داخلية أم خارجية، وهي ستؤدي بالضرورة إلى تجاوز الحدود الدنيا بكثير، ما يطرح العديد من إشارات الاستفهام ويدعو إلى القول: إن من انتظر 24 سنة منذ اتفاق أوسلو عام 1993، لإنجاز اتفاق ما على هذه الشاكلة التي ترتسم الكثير من حدودها الآن، من الأفضل له أن ينتظر 24 سنة أخرى أو يزيد، ولا يذهب إلى توريث أجياله القادمة صكوك هزيمة سوف تحتوى على أدق التفاصيل التي ستخرج بها الدولة الفلسطينية الوليدة بدءاً من نزع مخالبها، مروراً باقتصاد تابع، وصولاً إلى تسويق الثقافة التي تخدم ذينك الأمرين الأخيرين وفرض مناهج تعليمية من شأنها إدانة مراحل النضال الفلسطيني على امتداد سبعة عقود.
لربما من المفارقات أنه، وفي ظل الوضع العربي اليائس، تتبدى في الأفق بارقة أمل قابلة للاتساع، وهي تتمثل بحالة انزياح أوروبي عن المواقف السابقة العمياء الداعمة لإسرائيل وتبني سياسات باتت فيها أقرب إلى المصلحة الفلسطينية، وتلك ظاهرة لا يمكن إغفالها بل ومن الممكن الركون إليها للتخفيف من الاندفاعة الفلسطيني نحو تسوية أريد لها أن تكون في قاع أعمق المحيطات، ومن المهم أيضاً أن نشير إلى أن ثمة أمراً آخر يجب التوقف عنده، وهو يخدم في هذا الاتجاه الأخير، ويتمثل بالموقف الإسرائيلي المضمر من التسوية، فتل أبيب لا ترى في السلام حتى ولو كان على طريقتها، مصلحة عليا لها فهو(السلام) وكيفما جاء، سيؤدي إلى خسارتها للمزيد من الجغرافيا، وكذلك إلى تقييد سياساتها الاستيطانية أو تقييد ممارساتها الساعية إلى ضرب النويات الفلسطينية حتى الصغرى منها، والتي يمكن الرهان عليها في أي عملية استيقاظ أو نهوض لاحقة.
مما سبق نقول: إن الصبر في السياسة يبدو خياراً يتفوق على أي خيارات فلسطينية راهنة أخرى، فالزمن، وبعكس ما تظنه تل أبيب، لا يسير لمصلحة الكيان الإسرائيلي، لأن هذا الأخير ببساطة أشبه بقارب يسير بعكس التاريخ، شأنه في ذلك شأن قارب نظام الأبارتيد الذي غرق منذ عام 1994، فيما ينتظر نظيره الإسرائيلي دوره وهو قادم لا محالة مهما حاولت الروافع الأميركية والغربية إطالة عمره، إلا أنها لن تستطيع إنقاذه من مصيره المحتوم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن