شؤون محلية

المواطن بين دهاليز البيروقراطية وزواريب المركزية

| نبيل المالح

بداية أقول: نصحني البعض بالتوقف عن كتابة المقالات، لكون ما أكتبه فيه نقد وكشف للجوانب السلبية في حياة المواطن وبنيان الوطن، وإن في ذلك إثارة واستعداء للفاسدين والمفسدين الذين ازداد عددهم بشكل كبير غير مسبوق وخرجوا عن سيطرة الدولة وأصبح نفوذهم قوياً في مختلف دوائر الدولة ومؤسساتها.
وأؤكد أن ذلك لن يمنعني من الاستمرار في الكتابة الناقدة والكاشفة لحالات الخلل والفساد والتقصير، وتقديم الرؤى والأفكار الصالحة الموضوعية والعملية التي اكتسبتها من خلال تجربتي الطويلة واجتهادي لأكون رجل دولة- أقول ذلك ليس بقصد التحدث عن نفسي وإنما بقصد دعوة أصحاب التجربة والخبرة والكفاءة للمساهمة في قضايا الوطن ولو بالكلمة.. وعلينا أن نتذكر ما قاله ابن رشد «لن يتقدم العرب إلا إذا غرست فيهم الحس النقدي».
لكن ما يشجعني ويدفعني لمعاودة الكتابة، ما أسمعه بين الحين والآخر عن التصدي لحالة فساد كبيرة وتوقيف المتورطين أو المنفذين لها على الرغم من نفوذهم القوي وسطوتهم الواسعة.
وأتمنى أن يأخذ هذا التوجه إطاراً منهجياً ضمن حملة وطنية واسعة للقضاء على الفساد بجميع أشكاله؛ بعد أن وصل إلى مستوى يكاد يعصف بالوطن كله.
أعود إلى عنوان المقال لأتحدث عن البيروقراطية والمركزية التي سادت إدارات الدولة ومؤسساتها كافة بحجة تطبيق القانون والنظام، وأصبح موظف بسيط يفسر القانون كما يشاء غير مكترث بمساءلة أو محاسبة؛ لأن رؤساءه يجهلون القانون وهم أيضاً يفسرونه على هواهم. وأصبح المواطن في حيرة من أمره، فلا يجد مرجعاً يتمتع بالعلم والخبرة لمعالجة مشكلته، وأصبح هذا المناخ مرتعاً خصباً للفاسدين والمفسدين لابتزاز المواطن؛ لدرجة أصبح لكل معاملة تسعيرة معروفة وأصبح الدفع والقبض علناً من فوق الطاولة من دون خوف أو خجل. ومظاهر حياة هؤلاء الفاسدين تدل بوضوح على فسادهم، وتغني عن تحقيقات ومحاكمات طويلة قد لا تدينهم.
وسأتحدث عن مثالٍ حي «عن البيروقراطية والمركزية من خلال مراجعتي شخصياً لإحدى دوائر الدولة المسؤولة عن الخدمات التي تهم المواطن وتحافظ على شكل الوطن وبنيانه، فبعد أن وجهت هذه الدائرة كتاباً إلى دائرة التنفيذ لدى عدلية دمشق تطلب فيه وقف إجراء قضائي تنفيذاً لحكم مكتسب الدرجة القطعية، وعندما راجعت مدير هذه الدائرة أقر بأن طلب وقف تنفيذ هذا الإجراء القضائي غير جائز، لكنه لم يستطع إقناع الموظف المختص الذي يقف وراء إصدار هذا الكتاب بتواطؤ مع شخص يسعى لتعطيل تنفيذه، وأقنع المدير بضرورة الإحالة على دائرة أخرى! وأخذت الإحالة إلى هذه الدائرة لكني لم أستطع تسجيلها في الديوان بحجة أنه يجب إحالتها من المدير، وسألت عن المدير فقيل لي إنه باجتماع في المحافظة، وراجعت معاونه الذي قال لي إنه غير مفوض بالتوقيع ولابد من تأشيرة المدير! والغريب أن لهذا المدير ثلاثة معاونين، ولا أحد منهم مفوض بالتوقيع عن المدير، رغم أن موضوع الإحالة روتيني وإجرائي لا يحتاج إلى قرار تنسيبي يجب أن يتخذه المدير.
وبعيداً عن المعاناة التي عشتها على مدار ثلاثة أيام- وأنا وزير سابق- أسأل: هل يجوز لديوان أي دائرة أو مؤسسة حكومية الامتناع عن تسجيل أي طلب أو شكوى لمواطن إلا بعد توقيعها من المدير؟ بالتأكيد لا يجوز ذلك مطلقاً ويجب على الجهة المعنية باستلام الطلبات والشكاوى وتسجيلها فوراً بغض النظر عن مضمونها، ويبقى حق المدير ومعاونيه محصوراً بالموافقة أو عدم الموافقة وفقاً للقانون والنظام.
وأسأل: هل مدير الدائرة أو المؤسسة هو مالكها ليحصر جميع الصلاحيات بيده بمركزية شديدة تعوق عمل الدائرة وتعطله وتربك المواطن بما يؤدي إلى هدر الوقت والجهد وينعكس سلباً على أداء هذه الدائرة ويضر بشكل مباشر وغير مباشر بالوطن والمواطن، لماذا يتم تسمية المعاونين إذا لم تعط لهم الصلاحيات؟
وأعتقد أن هذا هو حال معظم دوائر الدولة ومؤسساتها الذي جعل الوزير أو المحافظ أو المدير من نفسه مالكاً لها يعطي من يشاء ويأخذ ممن يشاء.
وللأسف رغم أنه تم إحداث وزارة للتنمية الإدارية، إلا أن الحال بقي على ما هو عليه- اللهم باستثناء بعض الإجراءات التي بقيت حبراً على ورق- وبقي صداها في الإعلام والندوات فقط.
لابد من ثورة إدارية منظمة ومنتظمة تقضي على البيروقراطية والمركزية، وتجعل محاربة الفساد في أول سلّم الأولويات، وتقضي على هؤلاء الفاسدين والمفسدين الذين أصبحوا ورماً سرطانياً خبيثاً في جسم الوطن لابد من استئصاله.
وإلا فإن داهليز البيروقراطية ستصبح ساحات كبيرة، وزواريب المركزية ستصبح نظاماً يسود جميع مناحي الحياة، وعند ذلك سيكون الوطن وبنيانه في خطر حقيقي.
وللحديث تتمة
باحث ووزير سابق

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن