ميزان الأغاني
| عصام داري
أبدأ حكايتي بأغنية من كلمات وألحان الأخوين رحباني شدت بها فيروز، ويقول مطلعها:
لَمْلَمْتُ ذكرى لقاءِ الأمسِ بالهُدُبِ
ورُحْتُ أحضُنُها في الخافق التَعِبِ
والحكاية ليست عن عذوبة الكلمة، ولا عن روعة الصور في كل أغاني الرحابنة، ولا عن روعة الأداء لمطربة الخيال وحسب، بل عن فن الأغنية، ومن يحق له أن يكون أحد صناع الأغنية الراقية، من كلمات ولحن وصوت.
أتحدث عن الكلمة أولاً، والغريب أن معظم الناس لا يحفظ كلمات الأغاني، ربما يحفظ مطلع هذه الأغنية أو تلك من دون الدخول في كل التفصيلات، أو «الحكاية» التي ترويها الأغنية.
في حالنا هذه نفقد متعة الأغنية، ونردد كلمات معدودات، ولا نصل إلى السحر والجمال والصور البديعة التي تقدمها هذه الأغنية وجبة طرب دسمة تميل لها الرؤوس طرباً.
في الأغنية التي بدأت فيها زاويتي هذه تلاحظون وجود صور مرسومة بعين وعقل وقلب وإحساس فنان مبدع، أظن أنه شعر بمتعة خارقة وهو ينظم هذه الكلمات التي تضاهي عقداً من الجواهر والأحجار الكريمة، وأن الأخوين رحباني شعرا بالانتصار الفكري والفني عندما أنجزا الأغنية، فكيف يمكننا تصور أن تقوم الأهداب التي هي أضعف شيء في جسم الإنسان، بلملمة اللقاء الذي كان بالأمس، ومن ثم يحضنها القلب؟
لا أقصد الرحابنة حصراً لكن الفكرة أتتني وأنا أستمع للأغنية، لكن هناك المئات من الأغاني الرائعة الملأى بالصور، التي تحتوي السحر والخيال والتخيل ومتعة الكلمة واللحن والصوت.
فأغنية شمس الأصيل التي نظمها محمود بيرم التونسي ولحنها رياض السنباطي وغنتها أم كلثوم تحتوي على صور بديعة تصل إلى حد الإبداع، كذلك أغنية الربيع التي نظمها مأمون الشناوي ولحنها وغناها فريد الأطرش، أو الصبا والجمال من شعر بشارة الخوري وتلحين وغناء محمد عبد الوهاب، والأمثلة كثيرة صعب أن تعدد.
وأنا على ثقة بأن نظرتنا إلى الأغنيات التي نحبها ستتغير عندما نستمع إلى كلماتها بتمعن، ولا نكتفي بالصوت واللحن فقط، وجميعنا نعرف أن الكاتب والملحن يشبه الجندي المجهول في وطننا العربي، وأن الإعلام في معظم الأحيان يغفل اسمي الشاعر والملحن ويكتفي باسم المطرب والمطربة، أو المؤدي!.
وما بين أغاني تلك الفترة الذهبية وما نعيشه هذه الأيام مسافة فلكية، سواء لجهة الكلمة واللحن والصور الساحرة، أم لجهة الصوت، بل أرى أن مجرد المقارنة يعتبر ظلماً للأغنية الأصيلة.
تصوروا أغنية تقول مثلاً: بلا حب وبلا بطيخ!، أو يخرب بيتك حبيتك!، ح اركب الحنطور واتحنطر!، أوم أوءف وأنت بتكلمني!، ومئات الأغنيات الهابطة التي تخرش الحياء، وتسبب عسر هضم في الدماغ!.
الغريب في الأمر أن الأغنية الهابطة هي الأكثر شهرة هذه الأيام حسب استطلاعات الرأي العام، وما تنشره وسائل الإعلام، فهل وصل الذوق العام العربي إلى هذا الدرك والمستوى المزري أم إنها مرحلة وتمضي؟
مادامت أشرطة أغاني عبد الحليم حافظ حتى اليوم هي الأكثر مبيعاً في الوطن العربي فيمكننا أن نقول إن الدنيا بخير.