النأي عن الأم
|حسن م. يوسف
منذ بدء الحرب الفاشية على بلدنا عاهدت نفسي ألا أتناول أي موضوع من شأنه أن يزيد الشرخ بين أبناء وطني سورية، ومع أنني تعرضت شخصياً لضروب من الأذى والخذلان بعضها أصعب من ضرب الخناجر، إلا أنني رغم ذلك كنت، وسع نفسي، أتجنب شخصنة أنماط السلوك والأفكار والقضايا الخلافية التي يثيرها من يقفون على الضفة الأخرى، وغالباً ما كنت أتجاهل الشتائم ولغو الكلام مكتفياً بمناقشة ما هو قابل للنقاش، دون ذكر أسماء.
إلا أنني أنوي اليوم كسر القاعدة، لأن الـ«تصريحات» التي نشرها الدبلوماسي المنشق جهاد مقدسي على صفحته في الفيس بوك وعبر وسائل الإعلام، لم تتوقف لحظة واحدة عن التفاعل في داخلي، لذا عزمت أن أناقشها علناً، وخاصة أنها تثير قضية حساسة جديرة بالمناقشة.
تعلمون أن جهاد مقدسي ليس بالرجل البسيط، فقبل انشقاقه كان يشغل منصب المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، وبعد انشقاقه شغل منصب رئيس منصة القاهرة للمعارضة، فما الذي حدث كي يعلن مقدسي ابتعاده عن العمل السياسي الآن؟
أعترف أنني توقفت طويلاً عند لهجة «تصريحات» السيد مقدسي، فهو لم يعترف بأن خياراته كانت خاطئة، ولم يعتذر من المواطنين السوريين الذين عانوا، بسبب خياراته وخيارات أمثاله، لسنوات طويلة من الحرب والفقر والمعاناة، بل إن دراسة متأنية للهجة ونصوص تصريحات مقدسي تجعل المراقب الموضوعي يستنتج أنه ينظر إلى نفسه بفخر كما لو أنه مثال الوطنية والشجاعة الأدبية، إذ يقول في الـ«تصريح» الأول إنه: «تحمّل، كغيره، الكثير بسبب الثقافة السيئة التي ترافق العمل في الشأن العام السوري، وأن هاجسه الدائم هو أن يبقى منسجماً مع ذاته وقناعاته السياسية، وألا يخسر احترام العقلاء من أبناء سورية، مؤكداً أن هؤلاء هم حتماً «الأغلبية الصامتة أو ربما الضائعة بين الطرفين»!
ولكيلا يستفز أحداً من «رفاقه» يعلن مقدسي أنه قد تشرف بالعمل «مع بعض الشخصيات السورية التي انسجمت مع المطلب الأصلي للمجتمع السوري بالتغيير البنيوي غير الثأري والمبني على أسس دولة المواطنة»، كما يقول: «تعلّمت الكثير، واكتشفت جانباً حزيناً ومنسياً من الحياة السياسية المنشودة في بلادي، وتكرست قناعتي بأن الوسطية هي خلاص سورية». عال!
صحيح أن مقدسي كان في «تصريحـه» الأول متكتماً إذ أرجع انسحابه من العمل السياسي لـ«ظروف العمل والحياة التي لطالما حكمت ظروفي الشخصية». إلا أنه في تصريحاته التالية تخلى عن تكتمه، إذ أعلن لفضائية «الميادين» أن استقالته تأتي في وقت «يُحاك لسورية سيناريو قذر» معتذراً عن تقديم تصريحات إضافية حالياً. وهو، على حد قول موقع الميادين على الإنترنت، «لا يودّ أن يكون جزءاً من ذلك السيناريو».
أعترف لكم أنني لم أصدق عيني وأنا أقرأ اعتراف مقدسي أخيراً بأن ثمة «سيناريو قذراً» يحاك لوطننا الحبيب سورية، فهذا أمر سبقه لرؤيته الضرير وعرفه الطفل المقمط في السرير! ما فاجأني حقاً ليس اعتراف مقدسي بوجود السيناريو القذر، بل رد فعله إزاء ذلك الاكتشاف المتأخر! فبدلاً من أن يندم على خياره الخاطئ ويعلن وقوفه ضد ذلك السيناريو «القذر»، يقرر ممارسة وصفة «النأي بالنفس» التي اخترعها «قوادو» السياسة في لبنان!
وحاله في ذلك كحال ولد مدلل اقتادته أمه رغماً عنه إلى المدرسة وفي الطريق وقعت الأم في حفرة فيها العديد من العقارب والأفاعي، فلم يعمل الولد لإخراج أمه من الحفرة، كما يقتضي الواجب والمنطق، بل اكتفى بالصراخ، وهرب من المكان نائياً بنفسه عن مصير أمه!