ثقافة وفن

في وجوده وبعد الرحيل

| إسماعيل مروة

أطرف وأغرب ما نعيشه هو الوهم بامتلاك الحق والحقيقة! فعلى الصعيد الفردي، كل واحد يدعي أنه يملك الحق، بل يدعي أنه الحق، وغيره من الناس لا يمتلك شيئاً من الحق، فإن سرق كانت السرقة عادية، وإن اعتدى فالاعتداء فضيلة، وإن مال إلى عشيرته وقبيلته وطائفته ومذهبه ومنطقته، كان قوله: من لم يكن فيه خير لأهله لا خير فيه للناس عامة!
عجيب هذا الفهم، فإن حصر كل الخير بمن ينتمي إليه، فمن أين يأتي الخير للآخرين؟ وأي خير يرجوه الآخرون منه؟ المهم أنه يجد المسوّغ مع أن الشأن العام يجعل الجميع عشيرة العامل بالشأن العام، والجدارة والكفاءة هما الحكم الذي يرجح كفة هذا أو ذاك، ولا يجوز اختيار القريب لقرابته مع جهله! ولو تساوى القريب والبعيد في الكفاءة من قال لهذا إن القريب يمكن إن يكون أكثر إخلاصاً للشخص وفكره؟
المهم أنه يشعر بأنه يفعل الحق، وتم تعزيز هذا التوجه حتى صار ديدن كل صاحب موقع ومكانة، وطول فترة شخص ما في مكان يصبغ المكان بصبغته ومنطقته، ويبقى الأمر كذلك حتى يرحل فترحل معه الآثار لتأتي آثار أخرى! هل تريدون ذكر أمثلة؟ وعندما يرحل هذا أو ذاك من مكانه، ونحن في دولة مواطنة وعلمانية كما يفترض، يباهي هذا في جلساته الخاصة، وفي رحلة إعادة دمجه في المحيط الذي تعالى عليه، يتباهى بأنه لم يقصّر في أثناء وجوده بخدمة أصدقائه والذين ينتمون إليه! وكأنه يريد استرداد ما قدّمه لهم من خدمات في أثناء وجوده، ولكن هل خطر ببال أحدهم أن يسأل عن الطريقة التي يعتذر فيها من الوطن، ومن الطاقات التي نالها ظلم بسبب الانتماءات الضيقة؟
عدد من الأصدقاء كانوا يعرضون الصحبة لهم إلى شخص ذي مكانة، بل إن بعضهم كان يصرّح بأنه لا يرفض له طلباً لأنه ينتمي إليه، وممارسات صاحب المكانة تؤكد أنه يأخذ في حسبانه هذا الانتماء، لذلك عندما رحل سمعنا ممن قدّم لهم ما لا يستحقون يقولون علناً: ذهب من كنا نعتمد عليه، ولم نعد قادرين على الوصول!
ترى لو كان هؤلاء يملكون القدرة والمؤهلات فهل انتظروا دعم فلان أو فلانة؟ هل تنتهي صلاحياتهم بانتهاء مهام هذا الذي جاء لخدمة طيف من المجتمع كما يزعم؟ أليس من حق ابن المنطقة الشرقية أن يحظى باهتمام صاحب المكانة من أي مكان في سورية؟ أليس بإمكان ابن دمشق صاحب المكانة أن يرى سوى أبناء مدينته؟ إن الاهتمام الضيق هكذا يمكن أن يكون في مجالس البلديات والمحافظات والقرى وحسب، لأن ابن المنطقة أدرى بالشؤون الخدمية، أما عندما يكون الموقع على مساحة الوطن، فالمسؤول كما سمعنا من توجيهات السيد الرئيس يجب أن يتمتع بحب المواطن والحرص على مصالحه، وأن تكون شاشة رؤيته ضمن صلاحياته وموقعه على مساحة الوطن من شماله إلى جنوبه، ومن غربه إلى شرقه، لتستوطن الشاشة والرؤية في قلب الوطن ومصلحته.
ما علينا… ولي ولهذا الاستطراد المملّ، يبدو أن قراءتي مؤخراً لأحد كتب الجاحظ معلم العقل العربي، وتأثري باستطراداته جعلتني أقع في فخ الاستطراد، وكما رأى القرّاء في استطراد الجاحظ أمراً نافعاً، وليس خروجاً عن الموضوع، كذلك أرى، لذلك أحتفظ بهذا الاستطراد، وأرى فيه فائدة ما تتوجه إلى وجهة ما.
المهم أن عدداً لا يستهان به من الأفراد يرون الحقيقة معهم، وأن كل ما يفعلونه صواب، وأخطر ما في الموضوع عندما يتحول هؤلاء إلى مسؤولين، أخشى أن أكون قد بدأت باستطراد آخر، لكن لابأس، عندما يتحول هؤلاء إلى مسؤولين، يرون أن الموقع ملكية شخصية لهم، يتعاملون فيه وفق المزاج الشخصي، وفق مبدأ الحب والكره، فمن يحبه المسؤول يمكن أن يصل إلى ما يريد، وإن لم يمتلك ما يؤهله، ومن لا يحبه ناله غضبه، وكلامه وأوصافه القاسية، وإن كان ممتلكاً للخبرات التي لا يمتلكها السيد المسؤول!
يميل إلى المزاج، فيفقد المؤسسة دورها المؤسسي، وتتحول المؤسسة من رعوية إلى جهوية ومزاجية، والسيد المسؤول يرى أنه على حق، فهذا طيب ودمث ويطاوع في الأمر، ويحفظ درسه جيداً، وتنازل عن التنفس مطلقاً من رئتيه ليمارس تنفسه من رئتي المسؤول… إنه قادر على تمشية الأمور والأهم من دون تميز، المهم أنها تمشي بسلام وهدوء، ومن دون أن ينزعج السيد المسؤول…! أما الآخر، فهو برأي المسؤول فهيم، لكنه مشاكس، معتد، مملوء، لديه مشروع! وننتبه إلى تعبير «لديه مشروع»، فمن لديه مشروع قد يتعارض مشروعه مع الجهوية والوصائية، والسيد المسؤول بغنى عن وجع الرأس! الأفضل أن يأتي من ليس لديه مشروع، وأن يأتي من لا يحدث أي خضة في العقل والمجتمع! لسنا بحاجة إلى وجع الرأس!
المؤسسة الاجتماعية جيدة، وعين الله تحرسها، وأسرنا متماسكة على العكس من الأسر الأوروبية، وهكذا نحن نجد أننا نتفوق في مؤسستنا الاجتماعية، وعلينا أن نفاخر بذلك، ولا حاجة للعناية بهذه المؤسسة!! بينما المؤسسة الاجتماعية الغربية قائمة على التحلل والتفكك، والخروج عن إطار السيطرة، لذلك فإننا نحن من سيتماسك ولو بعد يوم القيامة بيوم، أما أولئك فلو بقيت حالتهم هكذا إلى ما بعد يوم القيامة، فإنهم لا بد سيتحللون بطريقة أو بأخرى!
وثقافتنا تلائم مجتمعاتنا، وهي ملتزمة فيما يتعلق بالدين والجنس والسياسية، وهذه المراعاة تجعل أي مثقف من مثقفينا بمنأى عن أي شيء، وتبقيه يعمل لأسرته من دون أن يحظى بأي مشكلة، أما المثقف الغربي فإنه يصل إلى مستوى كبير في حريته، فيقدم ما نعجز عنه، ولكننا نجبن عن فعله أو كتابته، ونهرع إلى قراءته بشكل كبير وعاصف، ونشيد به وبحريته التي يتمتع بها، ولكن إن قام أحد مثقفينا أو كتابنا بكتابة ما يماثل أو يقارب، فإننا نحن الذين نشيد بالكاتب الآخر وجرأته سنقوم بصلبه على باب المدينة من دون أي وازع أو رادع، لأن المؤسسة تقف في عقولنا قبل أن تقف أمام العامة من الناس!
ألسنا من أهم المزاجيين في الكون؟
لو أننا نتعامل بفكر مؤسسي هل كنا سنتعامل بأبوية مفرطة؟
لو أننا نملك كأفراد فكراً مؤسسياً لدولة هل وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟
إن فكرة المؤسسة والمواطنة هي التي يمكن أن تخلصنا من الأمراض كلها، ويمكن أن تجعلنا أقرب إلى المجتمع السليم، فصاحب المكان هو الذي فيه، وقد يكون جميع الموجودين من لون واحد لأنهم مواطنون وأكفياء، وليس لأنهم ينتمون إلى هنا أو هناك! وقد تستثنى جماعة أو أكثر لأنها لا تملك مؤهلات في هذه المرحلة، ما يدفع إلى تعزيز الطاقات والقدرات، وتحسين الأداء ليأتي وقت تقدم إسهاماتها! ولا يكفي الانتماء لأنه قد يأتي بمن لا يستحق، وفضيلته الوحيدة أنه ينتمي.
المواطنة وحدها لا تعتني بالقائم وبالراحل عن مكانه، لأن الضمان الوحيد هو العمل والقدرة والطاقة والخبرة، وليس من أحد بحاجة إلى دليل يأخذه إلى هذا المكان أو ذاك، وليس هناك من خوف من غياب أحدهم عن الشاشة، فهل نفعل؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن