ثقافة وفن

التجريد والإبداع في الأرابسك

| منير كيال

قامت على يد الشعوب التي انتشر بها الإسلام خارج شبه جزيرة العرب حضارات ذات جذور تاريخية عريقة، وقد أدى التمازج الحضاري بين تلك الشعوب إلى نشوء فن ينطبع بالمعايير الإسلامية من حيث تجنب رسم الأحياء ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
عكفوا على إبداع أنواع من الزخارف انعدم بها البعد الثالث، وانطبعت بطابع الأشكال الهندسية والخط العربي والتوريق والعروق النباتية، وفق قواعد للرسم لا يمكن للمبدع أن يتخطاها، لأن أي انحراف ولو بزاوية صغيرة يفسد العمل بكامله.
وقد تمثل ذلك بإبداع رسوم نباتية وخطوط هندسية وزخارف كتابية بتأنق وإبداع في تكوين جمالي يكره الفراغ، ويجنح إلى ملء أرضية «مهاد» العمل بزخارف دقيقة هندسية ونباتية وخطوط متكاملة مترابطة ومتوازنة. أكان ذلك في التذهيب أو القاشاني بل الخزف على الورق والمعدن والخشب وقد أعجب الصناع أو الفنانون الغربيون بفن الأرابسك وزخارفه النباتية، وخاصة في زمن النهضة الأوروبية لكنهم كانوا على جهل بالمعاني الروحية للزخارف والكتابات التي تحفل بها أعمال الأرابسك ونظرة متأنية لأعمال من فن الأرابسك، تجعل المرء يلحظ أن جنوح فن الأرابسك إلى تجريد يكره الفراغ يجعل الخط العربي في أعمال الأرابسك يذوب بتلك الأفانين الزخرفية التي نجدها في فن الأرابسك، لدرجة أن المرء لا يكاد يميز هذا الخط بين تلك الأفانين الزخرفية للأرابسك. لما كان للحرف العربي من قدرة على الالتواء والانحناء والانتصاب والمط، وفق أصول وقواعد متعارف عليها. ذلك لأن لكل حرف من حروف الأبجدية العربية هندسته الخاصة.
وقد أبدع فنان الأرابسك في استخدام الخط العربي ومهر في توظيف هذا الخط وزخارفه في فن الأرابسك مهارة تعجز عن الوصف، نتيجة للترابط الموزون بين الحرف العربي وزخارف الأرابسك الأخرى في العمل الواحد.. حتى أمكن القول إن فن الزخرفة في الكتابة العربية فن رائد يرقى إلى نوع من التجريد غايته التعبير عن أفكار تكره الفراغ… وبذلك أمكن القول بأن الخط العربي متمم لفن الزخرفة المعروف بالأرابسك بل إن هذا الخط عنصر أساسي في فن الأرابسك.
ولذلك أمكن القول: إن قيام أي فنان أوروبي بمحاكاة أو الاقتباس من فن الأرابسك سيأتي في إطار من التشويه لفن الأرابسك، أكان ذلك في المجالات العمرانية أو الفنية أو التحف.
وقد ذكر لنا «توماس أرلوند» في كتابه تراث الإسلام أنه عثر في هولندا على صليب يعود إلى القرن التاسع للميلاد، وقد نقشت البسملة على زجاجة في وسطه بالحرف الكوفي.
وبالطبع فقد كان ذلك نتيجة لجهل الناقل معنى البسملة الروحي في الإسلام.
ومن جهة أخرى فقد ظلت فنون الأرابسك محافظة على مكانتها وأصالتها الفنية، ولم ينافسها أي نهج من الفنون، لأن الفنان في أعمال الأرابسك يرمز في أعماله إلى الطبيعة، أو يقارب بين ما يجول بخاطره وهذه الطبيعة، حتى لكأن التجريد عند مبدع الأرابسك رغبة جامحة متأصلة في وجدانه. أكان ذلك رسماً أم نقشاً على المعدن أو على الخشب وكذلك على الحجر.
ذلك أن الأرابسك ليس مجرد زخارف وخطوط أنيقة وكتابات موزعة توزيعاً ترتاح إليه النفس… وإنما هو تجاوز بين الخط والأشكال والدوائر والحيوان والنبات. وهذا العالم من الإبداع هو أكثر من خطوط أنيقة موزونة. فالمبدع في الأرابسك يغوص إلى ما وراء الظاهر ليصل إلى ما يريد في عمله بأسلوب التجريد.
لأن الإبداع في الأرابسك إنما يجسّد الإحساس بين الفنان والموضوع الذي يعالجه، فلا الخط ولا الألوان تربط الفنان بالموضوع، وإنما هو إحساس أو تفاعل على نحو ما عبر عنه الفنان بحرية مطلقة، من دون التقيد بأي شكل من مقاييس المدارس الفنية الأخرى، ما كان منها الكلاسيكية أو التعبيرية أو الانطباعية.
ولو حاولنا القول بما يذهب إليه النقاد حول معطيات الفن المجرد المعاصر، فإن الأرابسك لا يخرج عن هذه المعطيات في كثير من المعايير. ففي متحف برلين حشوة من الخشب منقوش عليها زخارف بالحفر البارز تعود إلى مصنوعات حلب في القرن الرابع عشر.
وفي جميع الأحوال، فإن من الممكن القول بأن تأمل أعمال الأرابسك لابد أن يصاحبه إحساس تلقائي لاإرادي إلى ما ترمي إليه هذه الأعمال حتى يمكن استيعابها، وصولاً إلى الإحساس الذي عليه المبدع لأي من هذه الأعمال.
ويرجع سبب ذلك إلى ما يطيف بفنون الأرابسك من سحر، وما يطيف بكل منها من خيال واسع، وثروة زخرفية أعوزها أسماء أولئك المبدعين عن أعمالهم، ذلك أن أكثر الذين مارسوا هذه الأعمال، كانوا مقلدين للمبدع الأول لأي من هذه الأعمال وقد كان من حصيلة ذلك ندرة تراجم لأولئك المبدعين.
وفي جميع الأحوال فإن من الواجب الحفاظ على أعمال الأرابسك، وبالتالي الحفاظ على الخبرة الفنية التي توارثها الفنانون الحرفيون في أيامنا، ورعاية مهاراتهم في تنفيذ أعمالهم الإبداعية… تلك المهارة التي كانت حصيلة خبرة متوارثة كابراً عن كابر. ومن ثم نقل تلك الخبرات من الحرفيين المتميزين إلى أجيال تالية لتحقيق التواصل الثقافي بين ما كان وما كان ينبغي أن يكون.
فضلاً عن ذلك فإن الحفاظ على نماذج من فن الأرابسك التي توارثناها عبر أجيال لابد أن يرافقه صيانة ورعاية، حفاظاً على ذاكرتنا الثقافية.
كما أن تنمية المهارات الفنية لدى المبدعين المعاصرين ورعايتهم عمل إيجابي يدفعهم إلى مزيد من الإبداع والعطاء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن