بوادر خروج ألماني من القمقم
| عبد المنعم علي عيسى
يوم سقطت العاصمة الألمانية برلين بيد الحلفاء في 9 أيار 1945، صدرت أشهر الصحف الألمانية في اليوم التالي بمانشيت عريض يقول: الدولار الأميركي يساوي 4,2 مليارات مارك ألماني، وعندما حدثت قمة يالطا شباط 1945 اتفق الأقطاب الثلاثة، على تقسيم ألمانيا ضمن استراتيجية تهدف إلى السيطرة على المارد الألماني أو إلى إبقائه في القمقم إن أمكن، حيث سيسلك ذلك الثالوث فيما بعد طرقاً شتى لضمان تحقيق ذينك الهدفين السابقين، منها العمل على إبقاء ألمانيا بلداً زراعياً، وكذلك السيطرة على البنوك ودورة رأس المال للاقتصاد الألماني، وصولاً إلى نهب النخب الألمانية، ولربما من الجدير ذكره هنا هو أن الولايات المتحدة كانت أول المتنبهين إلى تلك النقطة قبيل أن تسعى جاهدة إلى استثمارها بشكل باهر، ومن المؤكد أن العلماء والمفكرين الألمان الذين قامت واشنطن بنهبهم، كانوا قد لعبوا دوراً بارزاً في تطور العلوم الأميركية وصولاً إلى إكساب حركة الحضارة الأميركية تسارعاً لافتاً ولا يقاربه أي تسارع آخر.
بالتزامن مع تلك البرامج المار ذكرها، عملت واشنطن على تبديل العداوة الألمانية بصداقة مستحدثة، وفي السياق عملت على خلق المناخات الكفيلة بحمايتها بما فيها خلق الشرائح الاقتصادية والاجتماعية المؤمنة بها والمدافعة عنها والتي ستشكل لاحقاً ضمانة كبرى لاستمرارها إن لم يكن لتناميها.
سلكت واشنطن لأجل تلك الأهداف، العديد من المسارات مما يمكن لحظه في مفاصل عدة، ففي خلال زيارة الرئيس الأميركي الأسبق دوايت آيزنهاور إلى ألمانيا عام 1957 قام الجنود الأميركيون بتوزيع الحلوى على الألمان، كما أنشأت واشنطن منظمة «كيير» الإنسانية، التي كان لها اليد الطولى في إنعاش شرائح واسعة، وبفعل مساعداتها استطاع مئات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ الألمان التغلب على المرض والجوع والفقر، كما أسست أيضاً إذاعة «رياس» في ألمانيا الغربية والتي نجحت في دفع شرائح واسعة من الألمان نحو تقاربهم من الثقافة الأميركية، حتى إنها استخدمت نجم الروك أندرول ألفيس بروسلي الذي كانت شعبيته الصارخة كفيلة، بجذب الألمان نحو طقوس ومناخات البلاد التي خرج منها، وفي مقلب آخر ذهب الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي أثناء زيارته لبرلين عام 1961 إلى مخاطبة الألمان بالقول: «أنا برليني»، والشاهد هنا هو أن الإحصائيات التي أعقبت تلك الزيارة كانت قد سجلت ارتفاعاً في نسب الألمان المحبين للأميركيين إلى نحو 58 بالمئة من إجماليهم.
كانت المعادلة الحاكمة والشائكة لتعاطي أميركا مع الألمان تقوم على وجوب مساعدتهم بما يمكنهم من ممارسة دور العمود الفقري للقارة العجوز، لكن دون أن يصل ذلك إلى تفعيل أو تحريض القدرات الألمانية المتميزة، تلك القادرة على إنتاج خميرة النهوض على مر المراحل، والتي تقوم على عاملين إثنين: أولاهما تنامي النزعة القومية المتطرفة التي تضفي على الذات الجماعية الألمانية شعوراً بالتفوق الذي يميزها عن باقي الأمم والشعوب، ومن الواجب هنا القول إن الألمان كانوا قد لعبوا على مدار القرون الأربعة المنصرمة دوراً بارزاً في مجالات العلوم والفلسفة والآداب والصناعة، ولربما يكفي هنا أن نقول إن الكمبيوتر الذي نستخدمه الآن كان مستخدماً في ألمانيا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وإن كان آنذاك بحجم غرفة كاملة، وثانيهما الشعور بمظلومية تاريخية ناجمة عن تآمر الآخر على العظمة الألمانية، ولربما كان هناك في الأمر ما يدعو إليه. صحيح أن الاتفاقات الظالمة لألمانيا كانت تنتقل من صيغة إلى صيغة أكثر تطوراً، إلا أن ذلك كان ناجماً أصلاً بفعل الانهيارات الألمانية التي تستدعي حكماً وقوعها تحت رحمة المنتصرين.
إلى حد ما نجح الأميركيون بكبح جماح النهوض الألماني أو السيطرة عليه على امتداد العقود السبعة المنصرمة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، إلا أن الخشية الأميركية كانت على الدوام ناجمة عن شعور دقيق يوصف النجاح الحاصل في عملية تدجين الألمان على أنه قد أصاب القشور فقط، وهو لم يصل في يوم من الأيام إلى اختراق اللب الألماني أو النويات الألمانية الحافظة لذات الأمة، صحيح أن هذه الأخيرة كانت قد أجبرت على الدخول في الشرنقة، إلا أن آثارها لم تغب يوماً تماماً، ومن يرقب المشهد الألماني بدقة فسيسجل خروج الألمان في تظاهرات عارمة عمت ألمانيا بالستينيات من القرن الماضي، والتي كانت تطالب بانسحاب القوات الأميركية من فيتنام، كما سيسجل خروجهم في الثمانينيات من القرن نفسه، تعبيراً عن رفضهم لقيام واشنطن بنصب صواريخ بالستية في «موتلا نغن»، والأمر نفسه ظهر أيضاً عبر وقوف المستشار الألماني الأسبق غير هارد شرويدر ضد الحرب الأميركية على العراق عام 1991 فيما عرف آنذاك بعاصفة الصحراء، قبل أن يميل الموقف الألماني للتعاطف مع الأميركيين في أعقاب أحداث أيلول 2001.
لربما يمكن القول إن فترة حكم باراك أوباما (2009 – 2017) كانت تمثل فرصة سانحة لبناء أو ترميم بنى النزعة الألمانية، فالرئيس المثقف لم يكن بوارد العمل على سحق النويات المسؤولة عنها، الأمر الذي يفسر حظوة هذا الأخير باحترام وتقدير الشارع الألماني، وهو ما ظهر جلياً خلال زيارته التي قام بها إلى برلين عام 2008، إلا أن مجيء دونالد ترامب قد أدى إلى انقلاب كل شيء رأساً على عقب، وعليه فقد أخذت تلك النويات تسجل خروجاً راسخاً من قمقمها، فالاستراتيجيا الترامبية تقوم على سحق كل من يفكر باللحاق بالقوة الأميركية، التي يجب أن تظل متفردة ومتفوقة، ضماناً لتثبيت واستمرار الهيمنة الأميركية على العالم، وهو ما أثار حفيظة العديد من القوى العالمية ومنها بالتأكيد الألمانية، وظهر ذلك مؤخراً في البرنامج المشترك لحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي بزعامة هورست زيهوفر وحزب المحافظين بزعامة أنجيلا ميركل، الصادر مطلع تموز الجاري، والذي سيخوض الحزبان على أساسه انتخابات أيلول المقبلة، فقد تم إسقاط صفة «الصديق» في توصيف العلاقة الألمانية مع الولايات المتحدة، على الرغم من أن البرنامج الذي خاضت ميركل على أساسه انتخابات 2013 التي أوصلتها إلى سدة السلطة، كان قد وصف تلك العلاقة مع الأميركيين بـ«أهم صديق».
ثمة متغير مهم وهو جذري ولا يمكن له أن يحدث، إلا بعيد استكمال شروطه الموضوعية والذاتية في آن واحد، ولربما من السهل على المتابع، تلمس حالة التململ داخل البنى والقواعد الألمانية التحتية، الأمر الذي يحتم انعكاسه على البنى والقيادات الفوقية التي تعتبر أصلاً انعكاساً دقيقاً للأولى، وعليه فإن من الراجح أن تشهد العلاقة الأميركية الألمانية، مسار زكزاك، ستتزايد مسنناته كلما خرجت علائم الوهن الأميركية إلى العلن، أو هي تبدت بوضوح أكثر.