ثقافة وفن

من أرض باركها اللـه… من سورية الأمل… لكم سلام … فراس البيطار لـ«الوطن»: على موسيقانا أن تكون منهاجاً لشعوب الأرض وعلينا تصدير الفن لا استيراده

| سوسن صيداوي

«الحقيقة جاءت بتراتبية، لكن نعمة اللـه كانت الدافع الأول لي، فاللـه لا يميز بين إنسان وآخر، لقد أعطى كلا منّا نعمة بشيء ما، كي يكون لنا رسالة، يمكن أن ندركها، أو تدفن معنا دون التفكير أو الشعور بقيمتها». بهذه الجملة افتتح كلامه المغني الأوبرالي فراس البيطار، الذي تمسّك بنعمته الممنوحة من اللـه، وعمل ولا زال يعمل على تطويرها، مستغلاً كل ما يتاح له من طاقة أو معلومة، مواجهاً كل التحديات، سواء المحلية أثناء الدراسة وما بعدها، وحتى التحديات في الاغتراب، كونه ابن سورية المحب والذي يشدو بصوته في كل الأنحاء، متمسكا بوطن كبير لا يمكن لحدود أن تأسره إلا حدود القلب الكبير. وكان مؤخراً حاضرا ومتألقا في افتتاح مهرجان«فلانري» العالمي للفنون المعاصرة الذي أقيم في فرنسا، في كنيسة جان مالت بمدينة ايكس بروفانس الذي أحياه منفرداً وبمرافقة عازفين عالميين، عازفة البيانو السورية المغتربة في فرنسا رشا عرودكي، وعازف التشيلو الفرنسي دومنيك دو فيليانكور. حيث ضم برنامج الحفل مجموعة آريات مقاطع غنائية دون أوركسترا من أوبرات لأشهر المؤلفين العالميين من عصور وقرون مختلفة مثل: فاغنر ومندلسون وهاندل وغيرهم، إضافة لمقطوعة قديمة باللغة السريانية ومقطوعتين باللغة العربية الأولى من كلمات الأم تريزا والثانية أغنية «وطني» التي اختتم البيطار فيها الحفل. صحيفة «الوطن» حاورت الفنان فراس البيطار وكان على الشكل التالي:

من دفعك لتعلّم الغناء ومتى رافقك العزف في التعلّم وما الآلة التي اخترتها في البداية؟
هناك الكثير من العوامل التي كان لها دور في الكشف عن موهبتي وصوتي، منها الأهل، والبيئة والثقافة الاجتماعية، فلقد كنت أعيش بالقرب من كنيسة للأرمن في مدينة حلب، وكان الصوت الأوبرالي والموسيقا الكلاسيكية عند مرور المواكب الجنائزية، يجذبني ويخلق في داخلي شعوراً غريباً، وبشكل تلقائي كنت أقلّد الصوت وألمس طاقة غريبة في صوتي، كان هذا وأنا في عمر اثنتي عشرة سنة، ثم بدأت بالتردد على الكنيسة لأسمع الهارموني وتداخل الأصوات، إضافة إلى غنائي المستمر في المنزل، الأمر الذي دفع والدتي للاهتمام بموهبتي وتشجيعي، وهنا كانت الخطوة الأولى بدخولي جوقة الأمل بقيادة المؤلف الموسيقي الأستاذ «جان حسكور» الذي عرّفني على هذا العالم وقدمني كمغنٍ إفرادي، والتشجيع الذي كنت ألمسه من الجمهور، شجعني لدراسة هذا الاختصاص بشكل أكاديمي، فتعرفت على أول مغنية أوبرا سورية «أراكس تشكيجيان» و بعد سماعها صوتي قالت «من زمان بحلم اسمع هيك صوت، صوتك مهم ولازم تدخل عالم الاحتراف». وبالفعل كانت فرصتي الكبيرة بأن أبدأ مع أستاذة بإمكانياتها العلمية والوحيدة في سورية المختصة بعلم الصوت، واستمررت في التدريب مع «أراكس تشكيجيان» إلى حين دخولي المعهد العالي للموسيقا بدمشق، أما الآلة التي اخترتها في الغناء وفي المعهد كانت الغناء والبيانو.
في البداية قمت باختصاص الغناء الشرقي.. ولكن بعدها نحوت باتجاه الغناء الأوبرالي والذي هو نخبوي وطبقي.. وهذا سيؤثر في انتشارك في الأوساط.. ما رأيك بذلك؟
للإجابة على هذا السؤال لابد من طرح السؤال التالي: ما المقصود باختصاص الغناء الشرقي؟، والجواب: إن كان كمدرسة هناك قواعد أساسية للغناء ولا نستطيع أن نقول هي للشرقي فقط أو للغربي، فمدرسة الغناء واحدة كقواعد وأسس لبناء المغني الحقيقي، لكن هناك عوامل أخرى تلعب دوراً، منها لون الصوت وثقافة المغني ونوعيه اللون الغنائي الذي يسمعه. بالنسبة لي أغني اللونين منذ خطوتي الأولى ولم أنح نحو الغناء الأوبرالي لأنني منذ البداية أريد أن أكون مغنياً أوبرالياً، أما الغناء الشرقي فهو شيء موجود في داخلي، وتربيت عليه، وكما أن الغناء الأوبرالي فتح لي المجال للانفتاح على شعوب وثقافات عالم آخر، كذلك الغناء الشرقي فتح المجال لأعرّفهم على ثقافة بلدي.

أنت اليوم في فرنسا وتشارك في الكثير من الفعاليات… الإقبال في الخارج على الثقافة الأوبرالية لا يمكن مقارنته مع دولنا العربية.. ما رأيك بذلك؟
نعم سنحت لي الفرصة أن أشارك في العديد من النشاطات العالمية، منها القداس الاحتفالي بتطويب القديس «ماريو أوجين» والذي كان بحضور أكثر من 12000 شخص من جنسيات مختلفة، وتم نقله على عدد من محطات العالم، بالإضافة إلى دعوتي من قبل أوبرا باريس للقيام بمشروع ثقافي للأغاني التقليدية، ودعوتي أيضاً إلى دخول دار الأوبرا بدور السفير «إيغيسون»في الأوبرا الكوميدية مع الأوركسترا الفيلهارموني، وعدد من الأمسيات المتفرقة. وبكل تأكيد الإقبال على مثل هذه الأمسيات مختلف، فهذه ثقافتهم وتاريخهم، والموسيقا بالنسبة لهم شيء أساسي في حياتهم، فهم يقدسون تاريخهم ويتفاخرون به، وعندهم منهجية ونظام مدروس وقوي بهذا الخصوص، فمثلا هناك شهور في السنة يتوقف العمل، كي تتاح الفرصة للناس حضور المهرجانات الموسيقية، وبالطبع هذا يلعب دوراً كبيراً في رفع الذائقة الفنية وفهم عمق ثقافتها.

منذ كنت في سورية وحتى يومنا هذا أنت توجّه العتاب (عتاب المحب).. للقائمين وأصحاب القرار فيما يخص المسرح الأوبرالي السوري الذي لم يشهد نهضته بعد.. رغم غنى سورية بالخامات.. المسرح الأوبرالي السوري ما الذي ينقصه وما هو المطلوب كي تصبح الثقافة الموسيقية الأوبرالية السورية أكثر انتشاراً وإقبالاً؟
لم أوجه العتب لشخص بالذات، ولكن كان العتب للحديث عن حالات لأنني أتساءل دائماً بحزن، هل يعقل أقدم بلد في التاريخ، والبلد الذي قدم أول نوتة موسيقية للعالم، والغني بالثقافات، أيعقل أن يبقى من دون هوية موسيقية؟. المسرح السوري وقبل وجود الأكاديميات الموسيقية، وانتشار الإعلام والفضائيات والانترنت، كان مقصداً لمغني العالم، وكان من أرقى المسارح في الوطن العربي، فلقد قدم أسمهان وفريد الأطرش وصباح فخري وفيروز ووديع الصافي، ولكننا وللأسف اليوم بعيدون جداً، مقارنة بالدول المجاورة التي يظهر على مسارحها أبناؤها بألمع الأسماء سواء أكانوا مغنين شرقيين أو أوبراليين. وهنا لابد من السؤال أين المغني السوري الشرقي قبل أن نسال عن المغني الكلاسيكي؟، هل هذا المستوى من الغناء يليق بهذا البلد؟. وبالطبع أنا أتكلم كمواطن قبل أن أتكلم كموسيقي، وعندما نمتلك القدرة على بناء مغنٍ وتقديم مسرح أوبرالي ومسرح شرقي من تاريخنا وثقافتنا، فمن السهل جداً العمل على نشر ثقافته وتوجيه الناس لهذا العلم، وهنا علينا التركيز على الدور الأساسي للإعلام في النشر والتوعية، وخاصة أننا نمتلك كسوريين أميز الخامات، بسبب المناخ والطبيعة السورية واللهجة، وكلّها تساعد على إبراز جمال الصوت، ولكن تبقى الأصوات خامات غير أكاديمية، فالغناء علم، ويحتاج إلى سنوات من التدريب، وللأسف الأساس ليس موجوداً وهو مدرسة الغناء، هي مشكلة في العالم ككل، دائماً نبحث عن الاستاذ الجيد بسبب اختلاف المدارس، بالإضافة إلى أن القائمين على هذا الاختصاص غير مؤهلين، ولا يمتلكون أدنى المقومات كي يكونوا أساتذة لهذا الفن الخلاق والإبداعي، رغم سعي القائمين على المؤسسات التعليمية من معاهد وكليات موسيقية على الارتقاء به. المعلومات لا تكفي لصنع مغني، والذين كانوا قائمين عليه علموا أجيالاً متتالية أساليب خاطئة، واليوم نحصد ثمار جهلهم، وليس هذا كل شيء بل أصبح عازف الفلوت أو الإيقاع أو البيانو، يعطي دروساً في الغناء، وهذا أمر غير مسموح نهائياً، لأن هذا الاختصاص حساس جدا، ويجب أن يكون هناك منهجية لبناء كوادر تعليمية مثقفة ومؤهلة، وهذا يحتاج إلى وقت وجهود كبيرة وقانون صارم ورقابة لهذا المكان وإنتاجه، وبالطبع أتحدث عن اختصاص الغناء بالتحديد لأن الاختصاصات الأخرى على مستوى عالٍ بسبب الأساتذة القائمين.

في المناسبة الأخيرة التي شاركت بها.. ما رسالتك التي أطلقتها للعالم بخصوص بلدك سورية وبخصوص موسيقاك؟
وصلتني دعوة من رئيس المهرجان لإحياء حفل افتتاح مهرجان «فلانري» منفردا وبمرافقة عازفين عالميين في مدينة «ايكسن بروفانس» الفرنسية، واخترت مقطوعات تتكلم عن الفلاح والأرض والطبيعة والمحبة، من أشهر أريات الأوبرا، ولكبار المؤلفين الموسيقيين، بالإضافة إلى مقطوعتين باللغة العربية ومقطوعة باللغة السريانية لغة سورية الأم، وكانت فحوى المقطوعات عن «الرحمة والسلام» وهو عنوان يوم الافتتاح، والذي كان مختلفاً كلياً عن باقي أيام المهرجان الذي ضم أكثر من 45 فنانا عالميا من بلدان مختلفة، وفي النهاية ألقيت كلمة بعض ما جاء فيها: «من أرض باركها اللـه، من بلد الأبجدية الأولى، والمدرسة الأولى، من بلد أول شجرة زيتون ورغيف خبز، من أرض عظمت المرأة، من سورية المتألمة، أحمل رسالة صلاة ومحبة من بلد فيه الشباب، يدفع دمه ثمنا لخلاصه ولخلاص العالم من الإرهاب الذي سلبه حريته وأمانه. من سورية الأمل، لكم سلام». وبعد شكر القائمين على المهرجان قدمت هدية لرئيس المهرجان من صنع أيدي السوريين وهي عبارة عن لوحة للبيت السوري الدمشقي، وبعدها تشكرت حضور مونسينيور الأرمن الكاثوليك «جوزيف بيزوزو» الذي جاء خصيصا لحضور المهرجان، وألقى كلمة شدد فيها على أن تأخذ فرنسا دورها الحقيقي في إحلال السلام في سورية والعالم، والتشجيع من الجمهور اضطرني أن أغني من دون موسيقا، وفي اختتام الحفل وضعت علم سورية على كتفي ولمست عاطفة كبيرة مع التصفيق الحار والدموع من الجمهور.

أنت شاب طموح وتسعى لتحقيق حلمك في موسيقاك وغنائك.. كيف تواجه إغراءات الغرب.. وخاصة إذا قارنا الحال، كفنان سوري، ما الذي يزعجك من حيث التقدير والاهتمام مع الدعم المطلوب، والذي لا يلقاه أي فنان شاب من الجهات المختصة في سورية؟
في الفن لا يوجد حد للطموح والأحلام، وأنا أسعى دائماً لتحقيق رسالة من خلال أي عمل أقوم به، لا تهمني الشهرة ولا أبحث عنها نهائيا، ولم أستغل أي مكان عملت به لصالحي، ولم أساير أي شخص لمصلحة معينة، وسعيد جداً بأنني أبني نفسي بنفسي، وسأستمر لأصل لكل مكان أحلم به، أما عن إغراءات الغرب، الحقيقة هنا يوجد قوانين وأنظمة، فمغنو البلد هم الأحق بدخول مسارح بلدهم، وعلينا أن نعمل ونثبت وجودنا أمام مئات الآلاف من مغني الأوبرا والأصوات الخيالية، كي نتمكن من أخذ مكان في بلاد، سبق وذكرت، يبذلون جهدا كبيراً لبناء أجيالهم موسيقياً، حيث دروس الموسيقى ليست حصصاً للفراغ أو للتسلية أو هواية في مدارسهم، فهي مسرح متكامل يقدم عرضا للجمهور في نهاية كل عام، لأنهم يعرفون أهمية هذا العلم ومدى ارتقائه بفكر الشعوب. أما بالنسبة للجهات المختصة بالفن والثقافة في سورية لا أظن أنها كانت تقصّر بالدعم، وخصوصاً قبل الأحداث في سورية حيث كان هناك انفتاح كبير وازدهار على كل الصعد، وحتى اليوم تقام الكثير من الفعاليات على الرغم من الأحداث والظروف المميتة التي يمر بها بلدنا. لكن يجب أن تتواجد الرقابة، وأن يكون هناك لقاءات مع الطلاب بكل الاختصاصات للحد من حالات سرقة الحلم أو تحطيم طموح الشباب، هذا بالإضافة إلى المحسوبيات والعلاقات الفردية. فنحن نمتلك موسيقيين مميزين، وكلّنا نتمنى وجود مستوى موسيقي عالمي، ينطلق من أول أرض سكنها البشر، فموسيقانا يجب أن تكون منهاجاً لشعوب الأرض كلّها وأن نصدّر الفن للعالم لا أن نبقى نستورده.

ما مشاركاتك ومشاريعك المستقبلية؟
يوجد عدد من الأمسيات الموسيقية وسأتكلم عن تفاصيلها في وقتها، ولكن بشكل عام وبهذه الظروف ستحمل كلّها رسالة سلام من سورية للعالم، أنا فنان ولست سياسياً، لكن الفن قضية ورسالة، فكيف إن كان بلدي اليوم يدّمر بأيدي أعداء الحياة، وطننا يحتاج إلينا كلنا، وكل واحد فينا من مكانه وبعمله يقدم شيئاً على قدر استطاعته، كّلنا جنود سورية المقدسة، سورية التي ستعلن نصرها للعالم قريباً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن