الأمومة والطفولة في التراث العربي … ما أغلى من الولد.. نامي يا بنتي نامي
| منير كيال
حفظت لنا ذاكرتنا الشعبية، جملة من العادات والتقاليد والمأثورات التي ترتبط بالأمومة والطفولة، وما كان للأسرة التقليدية من اهتمام بالمولود الذكر، ومعايشة الأم لوليدها ذكراً كان أم أنثى.
ذلك أن الطفولة حلقة أساسية من عمر الإنسان، وهذه الطفولة سرعان ما تكتسب المعرفة وتنتقل من البسيط إلى المركب، ثم إلى وعي الزمن واختزان المعرفة واستنباط القوانين التي تنظم الكون.
فعندما يفكر الأبوان في الأسرة التقليدية بزواج ولدهما، فإن أول ما يدور بخلدهما أن يكون لهما عقب ذكر يحمل اسم الأسرة، ويعين والده على تحمل مشاق الحياة ويقوم مقام والده في حفظ مهنة أبيه واستمرارها وهذا يفسر حرص الأم على إنجاب المولود الذكر الذي سوف يحميها من غوائل المستقبل، حتى لكأن المسؤولية تكاد تلقى على الذكور وهم في الأرحام.
واحتفاء الأسرة التقليدية بالمولود الذكر لم يكن مقصوراً على الأم والأب، فقد كان يشارك الأبوين الجد والجدة اللذان كانا يحلمان رؤية حفيدهما يملأ عليهما الدنيا، وفي ذلك قول المثل الشعبي:
«مو (ليس) أغلى من الولد غير ولد الولد»
اهتمام الأسرة بالمولود الذكر، ولا سيما المولود الأول للأبوين، يعود إلى زمن بعيد، حتى إن الأب إذا علم بولادة زوجته مولودة أنثى، فإنه يتألم داخلياً ويكاد يخجل من ذلك أمام الأهل والصحب، وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:
«وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم»
وبالطبع ليس معنى ذلك أن القرآن الكريم يدعو إلى الترغيب بالمولود الذكر من دون الأنثى، وإنما للدلالة على مشاعر الناس آنذاك تجاه المولودة الأنثى.
ولم تكن المولودة الأنثى أقل شأناً من المولود الذكر لدى الأم، فكلا الجنينين فلذة منها، لكن الاهتمام بالأنثى يرتبط بخوف أن يحل بابنتها مستقبلاً ما حل بها.
ونجد في تراثنا الشعبي مقطوعة تدل على ما كانت تقوله الأم لوليدتها خوفاً وحرصاً، ونذكر من هذه المقطوعة:
نامي يا بنتي نامي
إن شاء الله ما تنضامي
عين الله ما نامت
إن شاء الله ما تنضامي
شو هالقلوب التي إلهن يا بنتي
قسيت وما لانت
راح على اللي راح يا بنتي
وحاج تنقضوا الجراح
نامي يا بنتي نامي
وعيونك بالهنا نامت
نامي يا بنتي نامي
فقد ارتبطت هذه المقطوعة بجذور تعود إلى رواسب وظفتها الأم للتنفيس عن كربتها.
كما حفظ لنا تراثنا الشعبي مقطوعات أخرى، كنت قد سمعت أغلبها من جدتي ووالدتي، وممن جايلهما من الأمهات في أنحاء عدة من مدينة دمشق، وقد صعّدت هذه المقطوعات أصدق مشاعر الأمومة نحو الطفولة، ومن هذه المقطوعات ما كان بمناسبة ميلاد الطفل، ومنها ما ارتبط بأغاني المهد، وما كان في مداعبة الطفل بحيث يلقن الطفل مبادئ المعرفة.
والأم من خلال فرحتها بذكرى ميلاد وليدها، ومشاعرها بما تسبغه هذه الفرحة عليها من بهجة واطمئنان صورها تنطبق على قول المثل الشعبي كأنما:
«خرطه الخرّاط وقلب مات» بمعنى لا مثيل له.
فهو أسير قلبها، ومستقرها وأنسها، وليس له مثيل، وأين منه أنداده، بل أنى للنساء أن تلد مثله، مهما طال بهن الانتظار، فقد أعيتهن جميع الأساليب، رغم ما بذلن للقابلات (الدايات) من وعود ونقود، ومن ذلك قولهن:
مثلك ما جابوا
لو انحنوا وشابوا
لو برطلوا الدايات ما جابوا
والأم تجعل من بضاضة جسم ابنها أشبه بالزمرد، وحلاوته (جماله) أحلى من السكر، فضلاً عن كونه باب استقرارها، ورباط سعادتها الزوجية بقولها:
أنت سعدي ومسعدي
وأنت قضيب زمردي
وأنت للعين منظرة
وأنت بالقلب سكرة
وبمشاعر لا تقل صدقاً وروعة ورقة تناجي الأم طفلتها:
أنت ستي وست الكل
من نقدك (الصداق) بربط
ومن نقدك بحل من نقدك بطعمي الجوعان
ومن نقدك بكسي العريان
إذا تجاوزنا فرحة الميلاد، كنت ترى الأم تناجي وليدها أو ابنتها بهنهنات (أهازيج) هادئة خفيفة، أليفة إلى القلب، أنيسة إلى الأذن، جرت على لسان الأمهات جيلاً إثر جيل، وهي لا تزال ماثلة في أذهان بعض الأمهات على ما لحق بهذه الأهازيج من تقويم وتهذيب، تطلبته معطيات الحياة وظروف الأسرة، مع الحفاظ على نهج تلك الأهازيج الهادف إلى تعداد صفات الوليد أو الفتاة بالجمال الذي لا يماثله جمال، لاعتداد الأم البالغ بهذا الجمال وكونها لا ترضى عنه بديلاً.
ولعل هذا يذكرنا بقول المثل الشعبي:
«حبيبك حبّه ولو كان عبداً أسود»
وقد أثرت الأمومة، بمرحلة ما قبل التعبير لدى الطفولة تأثيراً كبيراً، فتركت الأمومة بصمات واضحة في تعلم الطفل اللفظ بأسلوب المقاطع البسيطة التي ترددها الأم أمام الطفل بتكرار ترافقه الحركة الرشيقة الحانية والابتسامة المشرقة المصحوبة بالنغم والإيقاع.. فترى الطفل مشرئب الرأس مفتّح الأذنين، باذلاً الجهد كل الجهد من أجل إخراج حرف من بين شفتيه، لتعم الفرحة أوصال الأم، ويأخذ بها الابتهاج كل مأخذ.
وليس أبدع على الأم من صباح الطفولة الملائكي والطفل يتخطى ويفتر ثغره عن أصوات رقيقة عذبة، هي بدايات النطق، والأم حانية عليه بإشراقة تذوب حبّا وكل خلية من خلايا جسمها تبتهل إلى الله أن يكلأ طفلها بعنايته ويحرسه برعايته، وينطلق لسانها بما تلهج عواطفها نحو الطفل كقولها:
صباح الخير يا بُكّر
يا إيمع على سكر
ويللي ما يتصبح بوجهك
يكون نهاره معكّر
وفي حال كون الطفل بنتاً يتبادر إلى ذهنها أقوال وأقوال، وهي على بساطتها تعبر تعبيراً صادقاً عما يجيش بخاطرها كقولها:
صباح الخير خيرة
يخلي بنتي هالزغيرة
صباح الخير كان
ما يخلى منك المكان
وإن خِلي منك المكان
تكوني عاملة سيران
فإذا أخذ الطفل يعي بعض الأشياء التي حوله، تعمد الأسرة كالجدة والأم والإخوة إلى غرس بعض المعارف البسيطة التي توسع أفق معرفته، وتنمي مداركه، كأن تأخذ يد الطفل وتشرع تحكي له حكاية العصفور الذي يتوضأ، وهي في كل مقولة تمسح باطن كف الطفل، وعقب كل مسحة على كف الطفل تطوي إصبعاً من ذلك الكف، وفي الختام تعمد إلى دغدغة الطفل من الكف إلى الصدر، بقصد إضحاكه.
والأمر كذلك إذا أرادت إحداهن أن تحكي للطفل حكاية الداية (القابلة) أو قصة خنصر للكف المعروفة باسم خنصر خناصر، وغير ذلك كثير.
فضلاً عن ذلك، فقد حفظت لنا الذاكرة جملة من العادات والتقاليد التي تعايش نمو الطفل، نذكر منها:
عادة القيام بعمل السليقة، وهي من القمح المسلوق المجلل بجوز الهند المبشور وحب الرمان والجوز المفروم، والمجلل بالسكر والزبيب.. إلخ، ويهدى من هذه السليقة الأهل والجيران والمعارف بأطباق أو صحون يعود كل منها بهدية للطفل كمظهر من مظاهر المشاركة بهذه المناسبة.
كما تدعو الأسرة أهل الزوج والزوجة إلى وليمة قوامها المعاليق (ج م: معلاق) المشوية أو المطهوة احتفاء بذلك.
وتكاد فرحة الأبوين لا توصف عندما يبدأ الطفل بالنطق، أما إذا تأخر نطق الطفل فإن الأم تسقيه من عرق (نجار) غطاء الطنجرة (آنية طهي الطعام) المعروفة، وذلك حتى تنفك عقدة لسانه كما يقولون، فضلاً عن ذلك فإنهم إذا تأخر مشي الطفل، يعمدون إلى ربط كل من إبهامي قدمي الطفل بخيط أو ما شابه ويأخذه شقيقه أو أحد الأقارب إلى مسجد الحي وقت صلاة ظهر يوم الجمعة، وينتظر أول خارج من المسجد بعد الصلاة، فيناوله مقصا يقص به ذلك الخيط، لاعتقادهم أن ذلك يعجل في مشي الطفل.
وبعد، هذا غيض من فيض تحفل به الذاكرة، وقد أردت الوقوف عندها، على سبيل التعرف إلى ما كان عليه أسلافنا، من تقاليد تربط أواصر الأسرة، بروابط المحبة والإيثار، راجياً من الله تعالى أن يكلأ وطننا من كل شر، وأن تعود المحبة والإيثار إلى وطننا الحبيب.