الصالح العام والطرق العاطلة
| حسن م. يوسف
أعتقد أن كل المشاكل تبدأ في رؤوس الأفراد، لذا فإن الخيار الأفضل دائماً هو محاربتها هناك، في الرؤوس، وهي في طور البداية، قبل أن تستفحل وتنمو لها أظافر ومخالب وأنياب وتخرج إلى الواقع للفتك بنا بشراسة الحيوانات المفترسة!
أحسب أن التحدي الثقافي الأكبر الذي فشلنا حتى الآن في توضيحه لأبناء شعبنا هو علاقة الدولة بالمواطن بحيث يمكن القول إن نسبة كبيرة من مواطنينا لا يميزون بين الدولة الاستعمارية التي عاش أجدادهم في ظلها أيام الاحتلالين العثماني والفرنسي وبين الدولة الوطنية. وهذا الأمر يتبدى في الموقف من المال العام.
صحيح أن قيم مجتمعنا الأخلاقية تشجب السرقة، لكنها تنظر إلى السرقة من الدولة بشكل ملطف ومختلف تماماً، حتى إن بعض الناس يقولون على سبيل التندر: «السارق من الدولة كالوارث من أبيه». وتتجلى هذه الكارثة بوضوح في المثل الدارج: «حلال عـَ الشاطر». حلال!
يعتقد كثيرون أن الدولة لديها نبع من المال لا يكف لحظة عن التدفق، لذا يحاول كثير من الناس البسطاء أن يصبحوا موظفين كي ينوبهم من (الحب) جانب! علماً أن الدولة لا تنتج شيئاً، وما يتوافر لديها من مال يأتي من المجتمع الذي تدير أموره تحت شعار خدمة الصالح العام الذي يطمح لتحقيق «أعلى قدر ممكن من المنفعة لأكبر عدد ممكن من الأفراد».
فالصالح العام على حد قول الفيلسوف المعاصر مايكل ساندل الأستاذ بجامعة هارفارد. «هو هدف الديمقراطية، في مجال السياسة، والاشتراكية، في مجال الاقتصاد».
كمثال على أسلوبنا في التعامل مع الصالح العام أريد أن أتوقف عند الطريقة التي عولجت بها مشكلة مجمع قاسيون التجاري الذي أعطي لمستثمر جديد بفارق مليار ليرة سورية فقط لا غير!
بعض أصدقائي الأعزاء اعتبروا ما جرى إنجازاً وطنياً كبيراً وجيروه لصالح الوزير المختص، وقد يكونون مصيبين فيما ذهبوا إليه إلى حد ما، فإدخال مليار ليرة إلى خزينة الدولة أمر لا يستهان به.
إلا أنني رغم ذلك أعتبر الطريقة التي نفذت بها العملية من أبشع عمليات الهدر التي رأيتها!
منطقي البسيط يدفعني للتساؤل: ألم يكن من الممكن إجراء عملية المناقصة دون إغلاق مجمع قاسيون التجاري الذي كان يخدم عشرات آلاف المواطنين في اليوم؟
أليس إجبار المستأجرين على نقل بضائعهم وفك ديكوراتهم وآرماتهم وخزائنهم… ضرباً من الهدر للوقت والجهد والمال الوطني؟ أم إن هؤلاء لا علاقة لهم بالوطن؟
قصدت المجمع قبل إغلاقه بمدة، عند التاسعة إلا ربعاً، على أمل أن أشتري كل أغراضي من مكان واحد لأن نهاري كان مزدحماً بالمواعيد. ردوني عن الباب لأن المجمع لا يفتح إلا في التاسعة(!)، انتظرت في الخارج إلى أن سمح لي بالدخول، وعندما وصلت إلى قسم اللحوم قيل لي إنه مغلق (!) لأن العامل مريض! ولعلمي أن المدير، في كل أنحاء الدنيا، ينزل مكان العامل في مثل هذه الحالات إن لم يجد من يقوم بالعمل، فقد طلبت مقابلة المدير، فاستقبلني بوجه يقطع النسل قائلاً بجفاف وعدوانية: «شو فيه؟».
فقلت له بجدية بالغة: «بلغتني سمعة ابتسامتكم الساحرة الباهرة، التي يبلغ عرضها من هنا إلى قبرص، فجئت كي أكحل عيني بمرآكم والتزود بأنواركم، دام عليكم البهاء سيدي، شكراً لكم سيدي»… وتركته وأنا أسمع ضحكات الموجودين!
صحيح أنني لست خبيراً في الاقتصاد ولا أفهم لافي المناقصات ولا في المزايدات، لكن حالة الشلل التي أصابت المنطقة تحزنني حقاً!