كان سياسياً.. شعراً وتأليفاً وموقفاً طول حياته … خير الدين الزركلي رغم حصوله على الجنسية العربية بقيت دمشق فرحته ودمعته وحياته التي أحبها
| سوسن صيداوي
لأن الحراك الثقافي يمثل المؤشر الجدي لتطور أي مجتمع، ولأنه الحصن القادر على تجنيب هذا المجتمع الكثير من المشكلات، ولأنه عند غياب الامتلاء ثقافة وفنا وروحا سيكون المجال مفتوحا على مصاريعه لأي فكر هجين أو غريب لسدّ الفراغ، في كتاب يحوي مجموعة من الأبحاث التكريمية للشاعر الكبير، وصاحب كتاب الأعلام ـ«خير الدين الزركلي… البداية» وفي إعدادها تم اختيار حوار مطول أجرته الدكتورة نجاح العطار في عام 1969 في بيروت، والمحاور الأخرى كانت: ساعتان في حضرة الزركلي وقد قدمه الباحث الشاعر أحمد المفتي، كتاب الأعلام وقراءة في تاريخه ومنهجه قدمه دكتور الأدب بقسم اللغة العربية شفيق البيطار، قراءة فنية في شعره قدمها الدكتور حسن الأحمد أستاذ النقد القديم بقسم اللغة العربية، تطوافة على حياته وجهوده قدمها الدكتور إسماعيل مروة، وأخيراً مختارات من شعره. والجدير بالذكر أن هذه الندوة صدرت بكتاب عن الهيئة العامة للكتاب، في 184صفحة، مقسماً إلى مقدمة ومحاور، بالإضافة إلى مختارات من ديوان الزركلي.
المحور الأول
كما ذكر تم اختيار المحور الأول وهو حوار أجرته الدكتورة نجاح العطار في عام 1969في بيروت، حيث عرّفت أن الشاعر لا يحتاج في تذكيره بوطنه، لأن وطنه كان في قلبه، وقلبه كان مزارا تتقد فيه جمرة، وتسمع تراتيل، وترى دموع.. أما غناؤه فقد صار حنينا، وظل حنينا.
ريانة بالدمع أقلقها
ألا تحسّ كرى ولا وسنا
كانت ترى في كل سانحة
حسنا وباتت لا ترى حسنا
والقلب لولا أنه صعدت
أنكرته وشككت فيه أنا
ليت الذين أحبهم علموا
وهم هنالك ما لقيت هنا
ما كنت أحسبني مفارقهم
حتى تفارق روحي البدنا
تتابع الدكتورة العطار «دمشق كانت في القيد غير قادرة على المصافحة ولا المساعفة، وكان خير الدين الزركلي يعرف ذلك، ومن أجله عذر، وحنا، ومسح على الجراح، واستنهض الهمم، وتعذب… وطال عذابه لأن عذابها طال، ولأنه، قبل أن يذهب إلى المنفى، عرف معها هنا، قسوة الحياة في ظل السيطرة العثمانية، كما عرف، وشهد بنفسه، تصدّع الأرض تحت أقدام المسيطرين».
وعن لقائها معه تصف محيّاه وهدوءه الظاهر الذي يخفي في أعماقه تيارا يجري ويسيل شوقا معذبا وحنينا فتقول «وحين سعيت إليه في بيروت، خُيّل إلي أن الشاعر الكبير ينبعث من قلب التاريخ، وأنني، في جلوسي إليه، أجلس إلى التاريخ نفسه، وأقلب، مع كلماته، وصفحاته.. أراجع الأعوام، وأعود، مع الذكرى، إلى عهد الشباب، شبابه هو، ذاك الذي، من خلف الملامح المتغضنة الشائخة….» وتتابع «تهيبت الدخول، تهيب الكلام، رغبت عنه. كان يكفي أن أراه، هذا التمثال الإغريقي….» وبعدها «الشام؟ وكيف هي الآن، كيف الشام يا بنتي؟ حدثته عنها… كان يسمع حديثي؟ وأنا، كنت أسمع ما يقول؟ كلانا كان يبحث في الآخر عن شيء، يتكلم بلسانه، وبقلبه يفكر. يتكلم من قلبه، وفي قلبه يفكر. هو عاد إلى الماضي، الذكريات صدى السنين، وأنا عدت إلى الماضي، لا ذكريات، ولكن عن صاحبها أنقّب، أستكشف، أقارن….».
المحور الثاني
«الأعلام لخير الدين الزركلي «قدمه الدكتور محمد شفيق البيطار، وفيه قراءة في تاريخه ومنهجه باعتبار الشاعر علماً من أهم الأعلام في القرن الرابع عشر الهجري العشرين الميلادي، متابعا دكتور بيطار أنه كان شاعرا مجدا رائدا في شعره الوطني والقومي والإنساني، ومن أكبر شعراء القومية العربية، وأرقهم عاطفة، وأصفاهم أسلوبا وحول الكتاب يقول «واحد من أهم المؤلفات التي صدرت في القرن الرابع عشر للهجرة والعشرين للميلاد حتى اليوم. فالمؤلِّف والمؤَلَّف معروفان ومشهوران لا يخفيان إلا على من لم يستضئ بشمس العلم وبدره، فما أصعب أن تصف إشراق الشمس، وحلاوة الشهد، وشذى الطيب، ورّقة الصوت، لذي عينين ولسان وشفتين وأنف وأذنين! وقد دُفعت إلى موقف محرج مهيب لأنني أعلم أن كثيراً من أهل العلم والباحثين، وأهل خير الدين وأصحابه وأحبابه، أعلم مني بالرجل وكتابه؛ ولذا يؤسفني أنني لا أكاد أضيف جديدا، ولكن لا أقول كما قال عبيد: (حال الجريص دون القريص)، إذ لابد من القول، ولهذا قسمت الكلام على عنوانات ثمانية:وصف الكتاب، تاريخه، مضمونه، منهج الإعلام ومزاياه، صياغة التراجم، رأي بعض العلماء في الكتاب، الاستدراكات عليه والتتمات، ما أعان الزركلي على إنجاز كتابه».
المحور الثالث
في هذا المحور قدم الدكتور حسن الأحمد قراءة فنية في شعر الزركلي وجاءت تحت عنوان «الشعر الوطني عند الزركلي» معتبرا أن هذا الشعر وإن بدا محورا في إطار جغرافي ووجداني_له امتداد إنساني، ينتقل فيه الذاتي إلى الموضوعي، والجزئي إلى الكلي، برؤيا شعرية تجد في التجربة الإنسانية نقاطا مشتركة، قائلاً: «الزركلي من الأصوات الشعرية البارزة في مسيرة الشعر القومي والوطني، وكان في حياته وشعره الشاعر العاشق لوطنه، المتألم لمصابه، المناضل في سبيل حريته وكرامته واستقلاله، فضح ممارسات العثمانيين.. وفي الخامسة والعشرين من عمره يقول في قصيدة جريئة تنمّ عن وعي عميق بالأحداث:
عَتا أحفاد جنكيز فساقوا
سلائل يعرب سوق العبيد
فكم قتلوا من الأخيار صبرا
وكم ساقوا المهانة من عميد
وكم حملوا على الأعواد ظلما
وكم سقوا المنية من شهيد».
ويتابع متحدثا عن مرحلة الاستعمار الفرنسي عند دخوله دمشق عام 1920، حينها عاش الزركلي مرارة جديدة وقال قصيدته الفاجعة مصورا فيها سقوط ميسلون:
الله للحدثان كيف تكيد
بردى يغيض وقاسيون يميد
تفدُ الخطوب على الشعوب مغيرة
لا الزهر يدفعها ولا التنديد
ما في دمشق لناهض من عزة
وبها سرادق غاضب محدود
خدعوك يا أم الحضارة فارتمت
تجني عليك فيالق وجنود
لهفي على وطن يجوس خلاله
شذاذ آفاق شراذم سود
أبرار السنغال تسلب أمتي
وطني ولا يتصدع الجلمود
هذا إضافة إلى أن د. الأحمد تحدث عن مقاومة الشاعر مع قضيته فلسطين منذ بدايتها، بوصفه الرمز والمثال الذي يحتذى به، ووقف موقفا حازما إزاء الحرب الأهلية في لبنان، وغنّى للجزائر.
المحور الرابع
قدمه الأستاذ أحمد المفتي وجاء تحت عنوان «ساعتان في حضرة الزركلي صورة عن قرب» وتطرق فيه للعديد من الأمور حول شخصية الشاعر وموقفه وقضاياه وحول هاتين الساعتين تكلم «لقد تعلمت في هاتين الساعتين الكثير الكثير… دخلت إلى دار العلامة الزركلي لأتناول معه الحديث عن ديوانه.. عن طباعته.. عن إخراجه.. عن مقاس الحرف، وعن نوع النسخ الذي يرغبه، وكان يفضل حرف النسخ (المونوفوتو) في تنضيد ديوانه، وعن الفواصل والعناوين ونوع الورق والتجليد وما إلى ذلك من شؤون الطباعة والفن.. وخرجت من عنده وأنا أدرك أنني إنسان آخر شدني إليه توثيق صلات وارتبطت عراه فكان ما كان».
المحور الأخير
هذا المحور خصصه الدكتور إسماعيل مروة للحديث عن حياة الشاعر وجهوده وكان عنوانه: «جمر أشعل الرماد» ومن بعض قليل مما ذكره، بأن الشاعر الزركلي أبى إلا أن ينسب لسورية فضل تصنيف أهم معجم في التاريخ العربي المعاصر، فكان معجم الأعلام الذي طبع في دمشق بطبعته الأولى، وقد قام على طبعه سيد الورّاقين أحمد عبيد. متابعا في حديثه «عند الزركلي وطبقته من الشعراء والوطنيين لم يكن الوطن بقرة حلوبا يأخذون منها ما يريدون، بل كان الوطن طفلا صغيرا بحاجة إلى الرعاية والحماية من كل مكروه، ويقطعون عن أنفسهم لأجله، ويعطونه نتاج عملهم علاوة على نتاج وقرائحهم وفكرهم. قد تكون الوقفة مع شاعر كخير الدين الزركلي عادية، لكن الشاعر وما يحمله من مواصفات حوّلها من وقفة عادية إلى وقفة غير عادية، وغير تقليدية، وخاصة أن الوطن لا يزال ينجب الأبناء، ولا يزال عرضة للأخطار فهل نصل إلى هذه الأخلاقيات الوطنية المميزة بكل ما فيها؟!».