أوروبا وأزمة اللجوء
| سامر ضاحي
تشكل اتفاقية «شنغن» أهم المساعي الأوروبية الوحدوية، أبرمتها بعض الدول الأوروبية منذ عام 1985، وأطلق عليها اسم القرية الواقعة في المثلث الحدودي بين لكسمبورغ وألمانيا وفرنسا، والتي جرى فيها التوقيع على الاتفاقية التي تفعلت أكثر عام 1995 بانضمام دول أخرى، وصولاً إلى انضمام دول ليست أعضاء في الاتحاد الأوروبي أصلاً مثل سويسرا عام 2008، حيث سمحت الاتفاقية بإلغاء عمليات المراقبة على الحدود بين البلدان المشاركة فيها كما تضمنت أحكاماً بشأن سياسة مشتركة حول الدخول المؤقت للأشخاص إلى بلدان الاتحاد، بالترافق مع مراقبة الحدود الخارجية، ما شكل فضاءَ موحداً بين الدول الموقعة على الاتفاقية، لكن أوضاع القارة الإفريقية وما تبعها من أحداث «الربيع العربي» وخاصة أزمتي سورية وليبيا، ساهمت بخلق أكبر تحد لـ«شنغن» لما أفرزته تلك الأزمات من موجات لاجئين، بدأت تتدفق إلى بلدان الاتحاد ما اضطر الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي إلى المطالبة بوقف العمل بالاتفاقية لمواجهة تلك الموجات.
وتبنت دول «شنغن» خطة بدأت عام 2015 في النمسا وألمانيا والدنمارك والسويد والنرويج لمراقبة الحدود الداخلية في «فضاء شينغن»، وتوقعت نهايتها بحلول نهاية عام 2016، إلا أن الخطة تم تمديدها أكثر من مرة وصولاً إلى الوقت الحالي.
مفوضية الاتحاد الأوروبي أعلنت في آذار العام الماضي، عن خطة لإعادة تفعيل العمل بـ«شنغن» بالاشتراك مع تركيا التي تعتبر أكبر مصدر لمغادرة اللاجئين إلى أوروبا، لكن هذه الخطة كانت بمثابة مقايضة رغبت فيها تركيا بالحصول على تعهدات بقبول عضويتها في الاتحاد الأوروبي مقابل التعاون مع بلدان «شنغن» وهو ما وقف عائقاً أمام نجاح الخطة الأوروبية.
ويدرك الاتحاد الأوروبي أن أزمة اللاجئين تتعلق ببنيته وتركيبته السكانية من جهة وآثارها السلبية جداً على المدى الطويل اقتصادياً وديمغرافياً من جهة ثانية، حيث يكلف إلغاء العمل باتفاقية «شنغن» الدول الأعضاء فيه نحو 120 مليار دولار على مدى السنوات العشر القادمة، وقد يكلف فرنسا وحدها أكثر من عشرة مليارات يورو سنوياً، وفق دراسة أعدها مركز بحوث تابع للحكومة الفرنسية منذ مدة قصيرة، ولعل ناقوس الخطر الأهم طرقه رئيس المفوضية الأوروبية جان كلون يونكر في كلمة ألقاها أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ في كانون الثاني عام 2016، حذر فيها من مخاطر كبيرة جداً تحدق بفضاء شنغن، و«تهدد بزوالها» وهاجم حينها انتقادات البعض بأن التكلفة الاقتصادية لإجراءات الرقابة عند الحدود باتت كبيرة جداً، متوقعاً أن ينتقل الحديث لاحقاً عن الحاجة إلى العملة الأوروبية الموحدة «اليورو»، في ضوء «تقييد حرية التنقل والسوق الداخلية» وهو كلام يحذر بشكل واضح من خطر تفكك الاتحاد الأوروبي نهائياً.
في الوقت الذي كان بمقدور الاتحاد الأوروبي حل مشكلة اللاجئين في المنبع عبر التعاون مع البلدان التي تعتبر مصدراً للجوء مثل سورية أو ليبيا أو حتى بلدان الاتحاد الإفريقي، من خلال المساهمة في حل أزماتها، سعى اتحاد بروكسل إلى اتخاذ موقف بدا متطرفاً ومتماهياً مع موقف القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، لا بل ساهمت بعض دوله في تمويل الإرهاب وتسليح جماعات راديكالية ومتطرفة في دول مثل سورية وليبيا، وتخلى الاتحاد عن دوره الوسيط فوقع في مستنقع الأزمات التي خلقتها موجات اللجوء، ففي سورية مثلاً لا تزال العقوبات الأوروبية تساهم باستمرار مأساة السوريين، وشكلت أبرز الأسباب التي تقف خلف موجات اللجوء لتبعاتها الاقتصادية، كما ساهمت العقوبات الأوروبية بحق معظم المسؤولين السوريين في وضع الحكام الأوروبيين في حرج التعاون مع الحكومة السورية وهو ما يتطلب وبشكل سريع رفع العقوبات كإجراء حسن نية بداية لتعاون بناء يحل أزمتي الطرفين.
ورغم كل ما سبق إيراده كان القرار المفاجئ للاتحاد الأوروبي الإثنين الماضي مثيراً للسخرية أكثر مما هو استجابة موضوعية لحجم الأزمة التي تواجهه، إذ أقر وزراء خارجيته الـ28 وضع قيود على تصدير القوارب المطاطية والمحركات المنفصلة للقوارب إلى ليبيا في محاولة منه للحد من الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، ولكن المعروف مؤخراً أن المهربين باتوا يلجؤون للقوارب الخشبية لتخفيف خسائرهم بعد السياسة التي تنتهجها قوات خفر السواحل الإيطالية عبر حرق القوارب في البحر قبل وصولها إلى البر الإيطالي، فأي استجابة أوروبية هذه؟!
موقف أوروبي آخر لا يرقى إلى حجم التحديات أعلنه وزير التنمية الألماني «غيرد مولر» الأحد الماضي أيضاً كشف فيه أن بلاده ستعمل على إعادة 200 ألف لاجئ سوري إلى المناطق الآمنة في جنوب سورية عقب الهدنة التي تم الإعلان عنها في 9 الشهر الجاري. وما يثير الاستغراب أن هذا من شأنه أن يعرض حياة 200 ألف لاجئ سوري للخطر إذ كيف ستتم إعادتهم، وما الطرق التي سيسلكونها، وهل سيكون ذلك عبر الحدود الأردنية أو التعاون مع دمشق، وهل سيتم بناء مخيمات لهؤلاء في الجنوب السوري ومن ثم زيادة معاناتهم أكثر مما حل لهم ولأوروبا.
في ضوء الموقفين السابقين يمكن الاستنتاج، بأن أوروبا لا تزال عاجزة اليوم عن اتخاذ مواقف إنسانية ومطلوبة لمعالجة أزمات تتعلق بوحدتها قبل أي شيء آخر في ضوء ما يكبلها من مواقف سياسية، أبرزها اشتراطاتها على السوريين للانخراط في إعادة الإعمار، وقد يصل بها المطاف فعلاً إلى ما حذر منه يونيكر بعدما شهدنا عملياً انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي العام الماضي، لكن يبدو أن الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون تنبه جيداً إلى هذا الخطر، فسعى إلى بلورة موقف فرنسي أكثر اعتدالاً ويقود مسعى داخل اتحاد بروكسل لإجراء انعطافة في سياسة الاتحاد تجاه سورية علها تساهم بحل أزمتها ويجنب اتحاد بروكسل الانزياح نحو «الزوال».