الخجل من أعين السوريات
| عبد المعين زريق
بقيت صورة «شربات» الأفغانية، المشهورة بموناليزا الحرب الأفغانية، في إطار جميل موضوع على طاولة عيادتي مدة طويلة، منذ أن رأيتها أول مرة على غلاف إعلان لمجلة «ناشيونال جيوغرافيك» في أواسط التسعينيات، ثم أعدت وضعها كتذكار من الأيام الريفية الجميلة بعد عودتي من غربة العمل عام 2007.
كانت الصورة مثار اندهاش واستغراب مراجعي عيادتي من المرضى والأصدقاء، كانت نظرتها المتوحشة والمليئة بالمتناقضات مخيفةً ومزعجةً لمن صارحني منهم، وكانت بحسب رأيهم لا تصلح، ولا يمكن أن تتصدر طاولة طبيب جراح، أما بالنسبة لي فكانت الصورة تمثل ذلك التحدي الذي وقفه الفقر والبؤس الأفغاني بوجه توحش العولمة الحديثة على دفعتين، ضد الروس ثم ضد الأميركيين.
لم أستطع أن أجد تفسيراً لجلال هيبة «شربات بيبي» في وقوفها أمام المصور الأميركي الذي التقط لها الصورة، إلا وقوف الصامد المتحدي، وزاد من قناعتي القديمة ما علمته لاحقاً من الرحلة الطويلة المضنية التي قطعها المصور ليجدها من جديد بعد قرابة عقدين، ليكتشف بعدسته، تأثير الزمن على تحدي وجلال وجمال ووحشية نظرتها.
حدث معي منذ فترة، وأنا أمر عابراً على بعض القنوات الإخبارية، أن توقفت عند اجتماع لبحث أوضاع النساء اللاجئات السوريات تحت رعاية الجامعة العربية، وتحدث في هذا المؤتمر أمين الجامعة العربية، والمسؤولة عن لجنة شؤون اللاجئات في الجامعة حصة آل ثاني، وهي سليلة العائلة التي تحكم دولة «المنطاد» قطر، التي هيمنت على مؤسسات الجامعة لفترة طويلة منذ أيام الأمير حمد بن خليفة صاحب «الصندل الديمقراطي» المخلوع بغضب الأميركي، وتابعه فيلسوف النفط والخراب العربي حمد بن جاسم، صاحب نظرية الذئب والنعاج.
تحدثت «الشيخة» آل ثاني وعلى الأثير مباشرة وبالصوت والصورة، بحرقة وتأثر عن حالة اللاجئات السوريات المأساوية في بلدان اللجوء، واضطرار بعضهن للعمل في شبكات الدعارة المقنعة بسبب الإكراه والإجبار والحاجة والفقر، واستخدمت «سموها» بعض التقارير الدولية للاستشهاد بشجاعة بعضهن في مواجهة الظروف القاسية للجوء والتشرد والحرمان.
الحقيقة لا أعرف من أي «كوكب دريّ» يصلنا مثل هذا المخلوق ومن أي ثقافة راقية ينهل، ومن أي مرجعية وخلفية إنسانية سامية تتحدث! ما أعرفه تماماً وبالوثائق المؤكدة أننا بائسون جداً، نعيش في زمن بائس لأننا مضطرون في كل مرة أن نستمع لمحاضرات من هذه الكائنات الفاسدة، رجالاً ونساء، التي قبلت قدم الأميركي ليكلفها بمزايدة جرائم «الربيع العربي» وثورات التخريب والقتل والتهجير والتشريد، ودفعت هذه العائلات بذاتها ثمن ذلك، أغلى الأسعار من عوائد النفط العربي والغاز المسال.
يخطر في بالي سيل لا يتوقف من الشتائم، تعافه نفسي وأخلاقي، مما سمعته في هجاء ولعن هذه العائلات الفاسدة من آل سعود أو آل ثاني وكل الآلات والأدوات العاطلة التي تعمل في جسد الأمة قتلاً وتخريباً وتهجيراً، ثم تتباكى علينا وتذرف دموع المستأجرات، وتعطينا محاضرات إجبارية بالتعاطف والتضامن والمواساة والمؤازرة في منابر قذرة اغتصبها بقوة النفط والغاز المسال و«إصبع القوة» من مشغليها وحماتها الأميركيين الجدد.
منذ سنوات ركنتُ صورة «شربات» بعد أن استطعت أن استحصل عليها مع أشياء قليلة من عيادتي، ووضعتها في دولاب سفلي هامشي، لم يخطر في بالي أنه ستمر على وطني كله ومدينتي ذاتها سنوات من الضلال العظيم تمر خلالها أمامي مئات الصور لشبيهات «شربات» من السوريات وأولادهن، طحنتهن الأزمة وألقت على أكتافهن العبء الثقيل وتخندقت في وجوههن أثارها العميقة؛ مقتل أزواج وأولاد، خراب بيوت العمر أو مفارقتها، رحلات الشقاء في اللجوء والنزوح وتأمين العيش المر.
تمر هذه الصور لهؤلاء السوريات الجليلات المهيبات بفقرهن وتعاستهن وحاجاتهن التي تصرخ من قلب عمق الصورة، صور جديدة أتى بها لنا الضلال العظيم والتيه الديني المعاصر، ليمحو صوراً سابقة جميلة ساحرة للمرأة السورية كانت فيها هي المرأة الأكثر جاذبية وسحراً من كل الجنسيات العربية والأكثر طلباً ورغبة للزواج.
يبقى اعتراف وحيد وتمنٍ، أنني لم استطع حتى الآن النظر في أعين السوريات من صاحبات المآسي والشقاء والتعب أو التحديق في صورهن أو التمحيص والتدقيق بعذاباتهن، تخذلني شجاعتي عند المرور على محن السوريات فلا أتوقف عند صورهن ولا أحب أن احتفظ منها بشيء، أعبر عليها بسرعة، ربما لأن قلبي كما قلوب كل السوريين، صارت مترعةً بالألم والصدمة والخجل مما جلبناه على بلدنا المشرف وإناسه الطيب.
الآن يمكن العودة للتأمل في نظرة «شربات» الأفغانية للتأكد من نظراتها القديمة! هل أخطأنا في قراءتها وتحليلها النفسي؟ وكم تحتوي تلك العيون المتحدية من حزن عميق وخيبة أمل مكتومةً بأخوة الوطن الذين حولوا أفغانستان إلى ملعب للدول الكبرى ولمجاهدي الزمن الأميركي البائس؟
في سورية، سيبقى هناك أملٌ لن يخبو مطلقاً، وهو معلقٌ بحبل متين مقدس بنواة حية من السوريين والسوريات وهو معقود إلى يوم يبعثون، وعليه رسمت حروف نجاة سورية المتجددة وانتصار السوريين في وجه التكبر العالمي وغطرسة العولمة الحديثة ولرد التتار والظلاميين الجدد مهما كانت الأكلاف باهظة ومهما كانت التضحيات جساماً والخيبات عظاماً.
توقفوا إذاً، يكفيكم نبشاً في التاريخ ويكفيكم البحث «بالسراج والفتيلة» لإيجاد نماذج نسوية تاريخية و«علْكِ» سيرهن الذاتية علينا مئات المرات، وتعالوا هنا وشاهدوا من السوريات الرائعات الصامدات الصابرات الواعيات، من تساوي كل التاريخ الطويل والهذر الكثير عنه.