حرص واشنطن على قواعدها في سورية يقربها من روسيا ويبعدها عن تركيا … أنقرة محاصرة ما بين اتفاق بوتين ترامب.. وانتصار «النصرة» في إدلب
| أنس وهيب الكردي
مع تغيير الوضع في إدلب عقب هزيمة ميليشيا «حركة أحرار الشام الإسلامية»، تقطعت السبل بالسياسة التركية في المنطقة، وباتت أقل قدرة على المناورة. تلا هذا التطور آخر أهم، ألقى بظلاله على الإستراتيجية التركية في سورية، هو: «اتفاق ترامب بوتين»، والذي تلاه تفاهمات نسجتها موسكو مع عمان، والرياض على ضمان مصالحهما بسورية.
تحملت تركيا كلفة كبيرة كي تجلس طرفاً ثالثاً كامل الحقوق على طاولة أستانا، متزعمةً بذلك الدول الداعمة للمعارضة في المفاوضات، لتجد نفسها خلال أقل من سبعة أشهر من انطلاق العملية، معزولة مجدداً وعلى الهامش، بعد أن عقدت موسكو مع الرياض اتفاقاً عبر القاهرة، حول الغوطة الشرقية بمحيط دمشق. جاء اتفاق الغوطة الشرقية استكمالاً لاتفاق جنوب غرب سورية الذي توصل إليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة مجموعة العشرين بمدينة هامبورغ الألمانية. ونص اتفاق توصلت إليه روسيا وتركيا وإيران في اجتماع «أستانا 5» أوائل شهر أيار الماضي، على إقامة أربع مناطق تخفيض تصعيد على الأراضي السورية في كل من درعا والسويداء، إدلب، ريف حمص الشمالي، غوطة دمشق الشرقية.
وتتحضر واشنطن وموسكو كذلك لإطلاق هدنة ثالثة في ريف حمص الشمالي. بذلك، خرجت ثلاث مناطق خفض التصعيد من العملية الجارية في أستانا، باستثناء إدلب، والتي لم يعد هذا الوصف ينطبق عليها، بعد أن دحرت «هيئة تحرير الشام» «وعمادها «جبهة النصرة» الإرهابية» مسلحي «الأحرار» منها. هكذا، باتت ادلب، منطقة خاضعة لتنظيم إرهابي دولي، يخضع الاتفاق حولها إلى تفاهمات روسية أميركية مباشرة. وتجلت هذه الحقيقة بالنسبة للأتراك، من تأكيدات القاعدة الروسية الجوية في حميميم. وكتبت القاعدة على صفحتها الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»: «لن يكون مصير مدينة إدلب مختلفاً عما حصل في مدينة الموصل في العراق في حال سيطرة تنظيم النصرة على كامل المنطقة». ونبهت إلى أن السكان المحليين سيكونون «الخاسر الأكبر» من معركة استعادة السيطرة على مدينة إدلب في حال سيطرت عليها تنظيمات «النصرة»، وأشارت إلى أن القوات الروسية ستضطلع بـ«دور مباشر» في معركة إدلب أسوة بما جرى في تدمر، ومناطق ريف حمص الشرقي.
ومع عودة تسوية الأزمة السورية «مسألة ما بين الكبار»، أي إن حلها سيجري ما بين الروس والأميركيين، سيجد الأتراك أنفسهم وقد جاء بهم الأميركيون إلى الطاولة بعد ترتيب شكلها، مكان جلوسهم، حصتهم، والمصالح التي سيقر لهم بها.
لذلك لم يكن خارج عن السياق، لجوء تركيا إلى تسريب قائمة مواقع القوات الأميركية وقواعدها في سورية. لقد تولى الأتراك القيام بهذه الخطوة في مسعى منهم للتشويش على المفاوضات ما بين موسكو وواشنطن الجارية بشأن تبادل الاعتراف بمناطق نفوذهما عبر المنطقة. أراد الأتراك من التسريب تحذير طرف ثالث «ربما إيران» من وصول المفاوضات الروسية الأميركية وراء الكواليس، إلى هذه النقطة. ربما هذا ما جعل الرئيس الروسي، يدفع مؤخراً، بالبروتوكول الملحق باتفاقية المبرمة بين موسكو ودمشق حول نشر القوات الجوية الروسية في سورية، إلى مجلس النواب الروسي «الدوما» للمصادقة عليه، علماً أن المستند تم توقيعه بداية العام 2017 الجاري.
ولا يخفى أن الكرملين تقلصت حاجته إلى لعب الورقة التركية من أجل الضغط على واشنطن «وبطبيعة الحال الورقة الإيرانية أيضاً» بعد نجاح بوتين في انتزاع صفقة، لا تزال سرية وغير واضحة المعالم، مع الرئيس الأميركي. أما الأميركيون الذين يستعدون للاحتفال بانتزاع «قوات سورية الديمقراطية- قسد» مدينة الرقة من يد داعش، فقد باتوا أكثر إدراكاً لفوائد التعاون مع روسيا، والذي يشكل ضمانة لبقاء قواعدهم العسكرية في شرق سورية إذا ما تبخر الدعم في بغداد للوجود العسكري الأميركي على أراضي العراق، في حال خسر رئيس وزراء العراقي حيدر العبادي الانتخابات البرلمانية المقبلة في العام 2018. ستساعد هذه القواعد، إذا ما قيض لها أن تستمر على الأرض السورية، الولايات المتحدة على تقليل اعتمادها على قواعد تركيا الحربية، وبالتالي تفقد أنقرة إحدى أوراق الضغط على الولايات المتحدة. باختصار ستتقلص أهمية قاعدتي أنجرليك وقونية التركيتين.
الأكثر إخلالاً بمصالح أنقرة وأمنها، أن الولايات المتحدة ستحتاج للمحافظة على مصالحها في شرق سورية إلى تطوير تعاونها مع «قسد»، التي تتشكل من خليط ميليشياوي تقوده «وحدات حماية الشعب» الكردية. وسيكون على واشنطن توفير مظلة أمنية لهذا التشكيل تقيه من التهديدات التركية، علماً أن أنقرة تعتبر الوحدات بمثابة «امتداد سوري» لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا.
وربما قرعت زيارة نائب قائد التحالف الدولي روبرت جونز الأحد إلى مدينة عين عيسى بريف الرقة الشمالي، الأجراس في أنقرة، وبالأخص تعهده دعم التحالف الدولي للمجلس المدني في مدنية الرقة الذي شكلته «قسد»، وتأكيده أن مهمة التحالف في سورية لن تنتهي بعد طرد داعش من مدينة الرقة، متحدثاً عن عمل أكبر ينتظر التحالف بعد الرقة، وتشديده على مواصلة التعاون مع «قسد» حتى إلحاق «هزيمة نهائية» بداعش.
الزيارة ترافقت مع مسعى رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة جوزيف دانفورد إلى طمأنة أنقرة وجذبها مجدداً نحو الإستراتيجية الأميركية في المنطقة. إذ لفت إلى أن «قسد» تطهر شمال سورية من تنظيم داعش الإرهابي، بدعم أميركي»، لافتاً إلى أن بلاده تبذل قصارى جهدها لتخفيف المخاوف التركية إزاء الدعم الأميركي لهذا الكيان، وشدد على أن «أي حل سياسي أو عسكري في سورية، سيتم من خلال الأخذ بعين الاعتبار مصالح تركيا على المدى البعيد من الناحية الأمنية»، لكن بدا أنه يعقد صلة ما بين ذلك وبين انضباط أنقرة ضمن حلف شمال الأطلسي حيث علق على سؤال حول صفقة شراء تركيا لمنظومة إس 400 المضادة للجو، قائلاً: «لا صحة للأخبار الواردة في هذا الاتجاه، فتركيا لم تشتر المنظومة»، واستدرك محذراً: «لكن لو فعلت ذلك، لأثار هذا الوضع قلق واشنطن».