قضايا وآراء

سورية بين تفخيخ المفاهيم وتفكيك المصطلحات

| عبد المعين زريق 

عند الانطلاق من نقطة مهمة وهي أن دوافع الحراك العربي الحقيقية التي اجتاحت بعض البلدان العربية في بداية العقد الثاني من القرن الجديد، تتمثل بالاستبداد السياسي والدكتاتورية والتسلط الأمني والظلم الاجتماعي، والتبعية للخارج ورهن القرار الوطني بما يسبب امتهاناً وذلاً متعاظماً للهوية والكرامة الوطنية، عبر كون الحكام والمنتفعون من السلطة في واد والجماهير المسحوقة بآمالها العريضة وشعورها المتنامي بالحقد والظلم الاجتماعي والذل على مستوى القرار الوطني السياسي في واد آخر، عند ذلك سندرك أن هذه الدوافع ذاتها ستجعل ما سمي «الربيع العربي» يأخذ مساراً مختلفاً متبايناً بين دولة وأخرى، لاختلاف دوافع «الثورات» وتوافر شروطها، إضافة إلى عوامل مؤثرة أخرى كالموقع الإستراتيجي للدولة ومدى خضوعها للهيمنة الغربية والشكل الديموغرافي لها من طبيعة سكان وطوائف ووعي ثقافي ومجتمعي وغيره.
يبدو واضحاً الآن وبعد نفوق «الربيع العربي» وتحوله إلى جثة غير مأسوف عليها، أنه لكي يكتمل تفكيك الحرب على سورية، وهزم كل المعتدين بأشكالهم المتنوعة فكرياً وإيديولوجياً كما تمت هزيمتهم ميدانياً وعسكرياً، يجب أن يفكك خطابهم المفخخ وتسحب منهم ذرائع وحجج العدوان، وتخضع شعاراتهم للقاموس الوطني لتبيان أنها زائفة ومفبركة، أو أنها غير متطابقة بين التنظير «المحق» والتطبيق «المخل».
في بدء التحركات، خرج «الثوار» بذريعة المطالبة بالحرية «بعد سنوات طويلة من القمع والاستبداد وتحكم الأفرع الأمنية في الحياة المدنية للسوريين ولإلغاء قانون الطوارئ والانطلاق في مرحلة جديدة من حرية الصحافة والرأي وحرية إنشاء الأحزاب وتطبيق قوانين الديمقراطية وحقوق الإنسان»، والرواية الأولى التي لم يستطع أحد أن يقف في وجهها منذ البدء حتى الدولة السورية التي سرعان ما اعترفت أنها مطالب مجتمعية محقة تحتاج إلى حراك حواري بين المجتمع والسلطات القائمة، غير أن كل التظاهرات التالية أبدت أن المعارضة كانت تملك أوهام التغيير واستلام السلطة بمفاعيل «الخارج» ضمن سياق مسلسل الربيع العربي، حيث بدت سورية حلقة واحدة فيه، لن يكون مصيرها إلا كمصائر من سبقها في تونس ومصر وليبيا، فكانت الأحداث قد فرضت سياقاً شعبوياً أن شرائح جماهيرية تجيش للمطالبة بإسقاط النظام في دولة ما، وسيكون بمقدور الضغط الإعلامي واللوجستي من جهات صارت معروفة الدعم والتمويل، مواكبة عملية الإسقاط.
لم يقدم «الربيع العربي» في كل الدول التي أسقطت أنظمتها، مثالاً جيداً للتغيير، وإن قراءة متأنية فيما حققته «الثورات العربية» بكل تلويناتها المختلفة ونتائجها المنظورة المتدرجة وطيفها المفرز في نماذجها المتنوعة من تونس إلى سورية مروراً بمصر وليبيا واليمن، وما تحقق من فوضى عارمة، تثبت الرؤية أن التغيير الذي كان مطلوباً كان للغرض الخارجي والمقاصد الغربية، وإن حدث ذلك بحوامل محلية أو إقليمية.
هناك بلدان سرعان ما لفظت حكامها بالتهديد السلمي بالفوضى، وهناك من تخلصت منه بالعنف «الثوري» المتوحش، وهناك من تخلصت منهم ببازارات تفاوضية إقليمية داخلية، وهناك مناطق أصابها استعصاء التغيير فيها بعد ما انكشفت كل معادلات التغيير والفبركات المرافقة.
كل هذه التنويعات في النواتج القريبة للثورات العربية أظهرت لاحقاً أن «المجتمع المدني الموحد بقواسم جامعة متوافق عليها» ليس نتيجة سهلة المنال وقريبة ومؤكدة التحقق، كما أن عمليات التدمير الذاتي تجري على قدم وساق في مجتمعاتنا العربية، إن كانت للبنى التحتية للوطن أو لتمزيق الشعب إلى انقسامات أفقية أو شاقولية تبعاً للطوائف والأديان والأعراق والقبائل والانتماءات الأخرى، أو يقتصر التدمير الذاتي على نسف القوانين الاجتماعية الناظمة وترك المجتمعات رهينة مخاض فوضى عامة تكرس الحرية الشخصية ومتطلباتها المتزايدة والمتناقضة كأهم هدف لها، بحيث يصبح تحقيقها في مجتمع مضطرب ضرباً من المستحيل.
بدت الشعارات واهية مفخخة، بعد رفض المعارضات وفشلها في عقلنة المطالب الشعبية إلى مطالب مشاركة وحوار مجتمعي، وليس عملية إقصاء واستئثار مماثلة لتلك التي يتهمون بها الأنظمة التي قاموا لتغييرها.
عندما أخفق المعارضة وبدأت تظهر علامات الصلف والعنجهية والطائفية في تصرفاتها، وركبت طريقة التغيير المسلح المدعوم من دول النفط وتركيا والدول الغربية، كانت الفوضى تطل على المنطقة، وتظهر الانعطافة الثالثة لـ«الثورة» السورية، بعد رفضها الحوار وتسلحها، لتدخل مرحلة الأسلمة والمطالبة بتطبيق الشرع الإسلامي وتحقيق الخلافة الإسلامية الموعودة.
وكما أن تطبيق الحرية الحقة يحتاج في أبسط مفاهيمه إلى الرجوع إلى رأي الشعب في صناديق الانتخاب، بعيداً عن عمليات فرض الرأي بالمفاعيل الخارجية وقوات الاحتلال، لأنها عمليات أثبتت فشلها «وتجارب العراق بعد الاحتلال الأميركي لم يحقق الديمقراطية والأمثلة كثيرة في هذا الصدد»، فإن التطبيقات العبثية التي رأيناها في مجال الحركات الجهادية وتقاتلها فيما بينها دلت بما لا يدع مجالاً للشك أن التطبيق الحق للشرع الديني يقتضي الحرية التامة وليس عبر عمليات جبر وإكراه تخلق مجتمعات منافقة جاهزة للانقلاب على نفسها عند أقرب فرصة.
ونظراً لتخبط المعارضة والمشروعات المعدة مسبقاً للمنطقة فقد استخدمت هذه «الثورة» كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة لتحقيق هدفها الوحيد في إسقاط النظام وبكل الوسائل، فظهر في مركب «الثورة» كل المتناقضات، وأصبح طريق الديمقراطية يمر عبر أكثر الدول استبداداً وارتهاناً، وأصبحت التعددية الثقافية والدينية السورية مضطرة لأن تواجه أكثر التيارات الإسلاموية ضيقاً في الوعي والاجتهاد والتفكير، التيار الذي اتبع قاعدة بسيطة لا تحتاج إلى مفسرين أو مجتهدين: «من مع الثورة فهو مؤمن ومن كان مع النظام فهو كافر يستحق القتل بمفارم اللحمة».
القادمون المبشرون بهذا التيار الديني الصحراوي لا يدركون أن لدى سورية إسلامها الشامي المعتدل الذي عاش في ظله كل التنوع الثقافي والإثني والديني والطائفي في مثالٍ قل نظيره في العالم. فحضور هذا الفكر البعيد عن أرضه، والصحراوي الطابع، الذي لم يحل مشكلاته الخاصة في منبته في بلاد نجد والحجاز ولم يحقق اللحمة الاجتماعية والوطنية المطلوبة في منبته، فحضور هذا الفكر إلى سورية، يمثل تهديداً انفجارياً للمركب السوري المتعدد والمميز، فيحول التنوع المجتمعي من ميزة خاصة إلى مسيرة تكفير وقتل على الهوية لكل من يعارضه، فوجود هذا التيار الديني في سورية يعني فتوى بالقتل لأكثر من نصف الشعب السوري، ورحلة مأساوية لا تنتهي من الحروب الأهلية التي تمزق سورية إلى دويلات متعددة وبداية لزلزال إقليمي واسع لا يقف عند حدودها، وهذا ما استدعى الرد السوري مع حلفائها في كل الميادين.
اليوم وسورية تقفل الأبواب الأخيرة لمسلسلات الحروب عليها، وتكشف كل الذرائع والحجج، وتفكك كل المصطلحات الملتبسة والمفاهيم المفخخة، فإنها تبني قاموس مصطلحات جديدة، تنسف فيه كل خطوات التغيير بوساطة العوامل الخارجية وتنحر فيه «الربيع العربي» الموقت بالرضى الأميركي والمايسترو الغربي، وتؤسس لحرية جديدة وشرع صحيح مبنية على القرار الوطني المستقل والتشبث بالثوابت الوطنية وعدالة القضية في وجه العولمة المتوحشة وفاشية الظلاميين الجدد وغطرسة دول الشركات الكبرى متعددة الجنسيات وحكومات الظل الأسود في العالم الغربي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن