قضايا وآراء

قراءة في معارك الجنوب- القلمون- الزبداني

عبد المنعم علي عيسى : 

 

لا تثير المعارك الدائرة في جرود القلمون وهضابه شهية وسائل الإعلام العربية ولا الغربية فهي تتعاطى معها بالكثير من التعتيم، ليس لأنها قليلة الأهمية أو ضعيفة التأثير، بل لأن إهمالها يمثل الطريقة الأكثر نجاعة في الحد من تفعيل تلك التأثيرات وحصرها في نطاق الجغرافيا التي تحدث فيها.
السلوك السابق لا ينطبق على وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث العسكرية الإسرائيلية التي تتابع ما يجري في القلمون LIVE و24/24 عبر الأقمار الصناعية العسكرية انطلاقاً من رؤيا عسكرية تقول إن ما يجري في القلمون سوف يحدد إلى درجة كبيرة طبيعة المواجهة العسكرية القادمة سواء أكان ذلك مع الجيش السوري أم مع حزب الله وفي ذلك فإن العديد من الخبراء الإسرائيليين باتوا يعلنون أنهم لا يرون اليوم من فارق يذكر بين الجنوبين اللبناني والسوري.
لا يخفي المعلقون الإسرائيليون ذهولهم وهم يرون مقاتلي جبهة النصرة يلوذون بالفرار على الرغم من تعبئتهم العقائدية والسيكولوجية التي تفوق الـ100% وعلى الرغم من خضوعهم لدورات تدريبية نوعية فضلاً عن أنهم يتحصنون في كهوف ومغاور طبيعية يعتبر مجرد التفكير في اقتحامها ضرباً من الجنون أكثر منه شجاعة، كان الظن في تل أبيب بأن من دفعت بهم من قوات النخبة في جبهة النصرة سوف يقومون بسحق خصومهم في الجيش السوري وفي المقاومة اللبنانية إلا أن ما حصل كان هو العكس تماماً.
عملت غرفة عمليات «موك في الأردن منذ النصف الثاني من العام 2014 على خلق واقع عسكري وميداني جديد داخل تلك المجموعات المسلحة العاملة في الجنوب السوري وقد كانت التقديرات بأنها ستبلغ ذروة جهوزيتها في غضون عام كامل لتصبح بذلك قادرة على القيام بالمهمة التي أسندت إليها وهي السيطرة على الجنوب السوري، وبمعنى آخر فإن الموعد الافتراضي لبدء القيام بالمهمة السابقة سيكون ما بين منتصف الربيع أو أوائل الصيف من العام المقبل (2015).
أطلق على عملية السيطرة على الجنوب السوري اسم الخطة (H) التي كانت مقروءة جيداً للجيش السوري، ظهر ذلك في قيام هذا الأخير بعملية استباقية أوائل شباط 2015 أطلق عليها اسم (الخط المانع) التي هدف منها إلى تحطيم طرق الإمداد والدعم بين الجزر التي تسيطر عليها تلك المجموعات المسلحة، الأمر الذي أدركته غرفة (موك) التي اشترطت القيام بالخطة H أن تكون مسبوقة بعمليات من شأنها كسر النتائج والتي أفضت إليها عملية الخط المانع، وهو ما هدفت إليه مجمل العمليات العسكرية خلال شهري نيسان وأيار التي استمرت بزخم كبير على الرغم من الخسائر الفادحة التي منيت بها تلك العمليات التي بلغت حتى 31/5/2015 نحو ألفي قتيل (1977 قتيل موجودون بلوائح اسمية على مواقع معارضة) وأكثر من ثلاثة آلاف جريح عولج 1200 منهم في مشافي إسرائيل والباقي في مشافي الأردن.
استطاعت تلك المجموعات أن تحقق بعض التقدم عبر سيطرة جبهة النصرة على معبر نصيب الحدودي 23/3/2015 وعلى بصرى الشام 25/3/2015 بدعم أردني مباشر حيث قامت الطائرات الأردنية برمي أسلحة وذخائر على قريتي نصيب والمتاعيه 23/3/2015، وبدعم أميركي استخباراتي حيث قامت وسائط الدفاع الجوي السوري بإسقاط طائرة الاستطلاع الأميركية نوع (الدرونز) 17/3/2015 التي كانت قد أقلعت من مطار الزرقا الأردني.
ارتفعت معنويات المجموعات المسلحة خصوصاً أن القيادة العسكرية كانت قد اتخذت قراراً بانسحاب اللواء 52 من المنطقة التي كان يتموضع فيها 9/6/2015، ومن المهم اليوم أن نقول إن ما كان موجوداً هو مفرزة متخلفة لقيادة اللواء تنتشر على مساحة لا تزيد على 3 كم2 وهي بطبيعتها ليست مؤهلة لخوض مواجهات ضخمة، على حين أن باقي الكتائب والسرايا التابعة للواء منتشرة على امتداد الجغرافيا السورية حتى إن إحدى تلك السرايا كانت- ولا تزال- موجودة في دير الزور.
جاءت معركة مطار الثعلة 13-14/6/2015 لتثبت نجاعة التكتيكات التي اعتمدها الجيش السوري عبر تعزيز نقاط الانتشار التي ستشكل منطلقاً لمهاجمة الأرتال والتجمعات وقوافل الدعم اللوجستي، وقبيل أن تبرد همة المقاتلين أو يصيبهم الإحباط أطلقت /موك/ معركة عاصفة الجنوب 25/6/2015 تيمناً بعاصفة الحزم السعودية التي هدفت إلى السيطرة على مدينة درعا، وفيها استطاعت وحدات الجيش السوري صد هجومين كبيرين متتاليين يومي 26-27/6/2015 بالتزامن مع قيامها بعمليات نوعية استخباراتية كتلك التي قادت نحو استهداف اجتماع لقيادات جبهة النصرة في سجن غرز إلى الجنوب الشرقي من درعا 25/6/2015 وكذلك تلك التي استهدفت فيها القناصين الشيشان 30/6/2015 الذين كانوا ثلاثين قناصاً، إلا أن الضربة الكبرى كانت في الخسائر الفادحة التي طالت قوات النخبة المدربة جيداً والتي تجاوزت أيضاً ألفي قتيل، الأمر الذي أدى إلى بروز الخلافات بين مكونات عاصفة الجنوب التي من الممكن أن تنسحب إلى مناطق أخرى في البلاد تدور فيها معارك طاحنة.
دفع الفشل في الجنوب إلى نقل المشهد إلى الجنوب الغربي من دمشق وعلى بعد 40 كم منها فقد مثلت جغرافيا الزبداني ومنذ بدايات الحرب على سورية نقطة استناد محورية بحكم قربها من الحدود اللبنانية 8كم وملجأ لأولئك الفارين من المعارك في القصير أو القلمون حيث سيتأكد لاحقاً أن الأسلحة والأموال كانت ومنذ العام 2012 تنقل من عرسال اللبنانية إلى الزبداني عبر قرية الطفيل ومنها إلى الغوطتين.
عملت المجموعات المتحصنة في الزبداني مؤخراً على تهديد دمشق بقطع المياه عنها عبر سيطرة مجموعات كانت قد تمددت إلى وادي بردى بما فيه نبع الفيجة، كما عملت على تهديد الطريق الواصل بين بيروت ودمشق، وإذا ما أردنا أن نبرز أهمية هذا الأخير فإنه يمكن لنا القول إن دمشق كانت قد خاضت معارك طاحنة مع الجيش الإسرائيلي صيف العام 1982 الساعي آنذاك إلى ما تسعى إليه المعارضة السورية اليوم، كان أبرزها معركة السلطان يعقوب 11-12 حزيران 1982 التي استطاع فيها الجيش السوري صد الهجوم الإسرائيلي الرامي للسيطرة على طريق بيروت- دمشق على الرغم من أن تلك المعركة كان قد خاضها الجيش السوري في ظل انكشاف وحداته أمام سلاح الطيران الإسرائيلي بعدما قصفت الطائرات التابعة لهذا الأخير بطاريات سام 3 وسام 6 في البقاع قبيل يومين من تلك المعركة أي في 9 حزيران 1982.
نجح الجيش السوري منذ اليوم الأول لبدء معركة تحرير الزبداني التي بدأها 3/7/2015 في عزل المدينة عن محيطها بشكل كامل كما استطاع بسرعة قياسية السيطرة على عدة أحياء مهمة فيها وبخسائر كانت أقل بكثير مما هو متوقع فقد كانت التحصينات المشغولة على مدار الأعوام الثلاثة الماضية تمثل- كما يفترض- حالة دفاعية متميزة، إلا أن سقوط تلك المجاميع المحصنة كان قد استدعى إطلاق صفارات الإنذار الإسرائيلية حيث سترى تل أبيب في ذلك الأداء أمراً مقلقاً فالزبداني بحسب هذه الأخيرة (تل أبيب) محصنة جيداً وبدرجة أكبر من الكثير من المدن الإسرائيلية بل ربما بدرجة أكبر من تل أبيب نفسها، الأمر الذي يعني في الحسابات العسكرية أن قدرات الجيش السوري (وكذلك المقاومة اللبنانية) باتت تؤهله لتحرير أي مدينة فلسطينية محتلة في أي حرب مقبلة هي واقعة طال الزمن أم قصر.
تحدثت وسائل الإعلام الغربية (الفرنسية والبريطانية والأميركية) عن تكتيكات كانت متميزة اعتمدها الجيش السوري في الزبداني وفي الوقت ذاته أشارت تلك الوسائل إلى أن تحرير الزبداني من شأنه أن يؤدي إلى إحداث تغييرات جذرية في الخريطة العسكرية لأطراف الصراع حيث تمثل «الزبداني» المعقل الأخير للمسلحين في منطقة القلمون.
تراقب واشنطن ما يجري في الجنوب السوري والقلمون والزبداني من كثب من دون أن تحسم موقفها بشكل نهائي فهي من جهة باتت تخشى من تنامي روح المغامرة لدى كل من أنقرة والرياض وتل أبيب ومن جهة أخرى باتت متأكدة أن أكتاف «المعارضة السورية» ليست قادرة على حمل المهام الموكلة إليها وقد أصبحت تنوء بذلك الثقل الكبير.
ما يمكن ملاحظته اليوم هو أن وسائل الإعلام الأميركية ومراكز الأبحاث التي تعتبر المفرخة التي تفقس فيها القرارات قبيل أن تكون موجودة على الأرض، باتت تتحدث عن فشل الرؤيا الاستراتيجية الأميركية التي تخص الحرب على سورية بعد فشل مجموعة من العواصف التي قامت واشنطن بدعمها في جنوب وشمال ووسط سورية من دون أن تتمكن أيّ منها من تحقيق الغايات المرجوة منها، الأمر الذي يحتم تغيير تلك الاستراتيجية بما يتلاءم مع المستجدات الحاصلة وهي كثيرة بل كافية لأن تنسف الاستراتيجية السابقة من جذورها وإبدالها بأخرى تكون أكثر واقعية منها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن