هل يستطيع أي إنسان أن يحب نفسه أو لا يحب؟!…فن الحب.. بين فلسفة «إيريك فروم» وفلسفة الناس
إيمان أبوزينة :
لطالما شكل كتاب «فن الحب» لعالم النفس والفيلسوف الألماني «إيريك فروم» منعطفا مهما في حياتي حيث قلب لدي كل المفاهيم الراسخة والضعيفة عن الحب إلى الدرجة التي اضطررت لشرائه «بسعادة قصوى» لأكثر من عشرين مرة لأقدمه في كل مرة هدية لأصدقائي لأرسخ في ذهنهم كل ما كنت أردده على مسامعهم من صفحات الكتاب عندما يقرؤونه ويمتلكونه.
ومع مرور الأيام ووقوعي في تجارب الحب المختلفة مع الناس، والأقرباء، والأصدقاء، أدركت كم علمني هذا الكتاب القدرة على فهم المعنى الحقيقي للحب بشكله الإيجابي الذي يولد إحساسا عاليا بالقوة والصواب في التجربة، وليس إحساسا بالضعف والانكسار والفشل.
يقول «إريك فروم»: «الحب نشاط، وليس شعورا سلبيا، إنه «الوقوف» وليس «الوقوع»، ويمكن وصف الطابع الإيجابي للحب بقولنا إن الحب هو العطاء أساسًا وليس التلقِّي. والعطاء لايعني «التخلي عن» شيء، لأن من يكن قادرًا على أن يعطي من ذاته فهو غني، وهو يعيش نفسه كإنسان يستطيع أن يعطي من نفسه للآخرين من أثمن ما يملِك، أنه يعطي من حياته. وليس هذا يعني بالضرورة أن يضحي بحياته للآخَر بل إنه يعني أنه يعطيه من ذلك الشيء الحي فيه، أنه يعطيه من فرحه، من شغفه، من فهمه، من علمه، من مرحه، من حزنه – من كل التعابير والتجليات لذلك الشيء الحي الذي فيه. وهكذا يعزِّز شعور الآخَر بالحياة وذلك بتعزيزه لشعوره هو بالحياة».
يؤكد جميع العلماء أن الحب يغير نظام الاتصالات العصبية والـ DNA لدى المحبين، فكيف لكلمة «أحبك» أن تجعلنا سعداء بين الفعل والقول؟
«سعيد» طبيب /48/ عاماً يقول: أحب أن أرى تصرفات حبيبتي، فأنا لست من النوع الذي يحب سماع كلمات الحب طوال الوقت، لكنها تسعدني حين ترسل لي بعض الرسائل خلال النهار، وحين نجتمع أحب أن أسمعها تتحدث عن بعض مشاكلها الهامة لتعرف أني أساندها ويمكنها الاعتماد عليّ.
«آلاء» طبيبة /38/ عاماً ردت على زوجها فقالت: حين يقول لي «أحبك» يتعدل مزاجي وأصبح قادرة على محو جميع الأحزان والمشاكل من يومي.
يقول «فروم»: «إن الرغبة للاندماج مع شخص آخَر هي أكبر توق لدى الإنسان. إنها أشد عواطفه جوهرية»، فمشاعر الحب ترفع لدينا الحالة النفسية فتجدد طاقتنا وتجعلنا نشعر وكأننا بأفضل حال عن غيرنا، وقد أكد الدكتور «سعيد» أن الجسم ينتج هورمون «الاندروفين» عندما يكون في حالة حب مما يمنحنا الطاقة والحيوية والاحساس بجمال الأشياء حولنا، وتخفيف التوتر والضغط النفسي.
يؤكد «فروم» أن الحب الطفولي يسير على مبدأ «إنني أحب لأنني محبوب»، أما الحب النرجسي فإنه يسير على مبدأ «إنني أحبك لأنني أحتاج إليك»، لكن الحب الناضِج يقول: «إنني أحتاج إليك لأنني أحبك»، والقول الأخير ليس مفهوما عند الأغلبية للأسف لأن الجميع يعتقد أن الحب يعني الحاجة للطرف الآخر فقط مع تناسي أن الذي يستطيع أن يحب فإنه سيحتاج الناس الذين حوله، فحسب «فروم»: «إذا كنت أحب شخصاً واحدًا حبًا حقيقيًا، فإنني أحب الأشخاص جميعًا، أحب العالَم، أحب الحياة. إذا استطعت أن أقول لشخص آخَر «إنني أحبك» فيجب أن أكون قادِرًا على أن أقول: «إنني أحب فيك كل شخص، أحب من خلالك العالَم، أحب فيك نفسي أيضًا».
يقول المفتش المتقاعد «جورج» /67/ عاماً: بالفعل يمكنني أن أؤكد أن ما حدث معي خلال الأربعين عاماً من زواجي كان يجعلني أحب الأهل والأقرباء والأصدقاء من طرف كل منا، وقد كانت زوجتي سيدة الحب بالنسبة لي لأنها جعلتني أرى الأشياء بمنظارها الإيجابي الذي يغمر الجميع بالسعادة علما أني كنت من الأشخاص المزاجيين والعصبيين.
أنواع الحب
يقسم «إريك فروم» الحب إلى أنواع تبدأ من «الحب الأخوي» الذي يعني تجربة الاتحاد بكل الناس، مرورا «بالحب الأمومي» الغريزي، وصولا إلى «الحب الجنسي» الذي يراه أشد أنواع الحب خداعًا لأن معظم الناس يعتقدون أن العلاقة الحميمية للحب تقوم أساسا من خلال العلاقة الجنسية، لكن الحقيقة أن هذا الحب يعني تعددا في العلاقات، وبحثا واهما عن علاقات جديدة فاشلة.
«رامي» موظف /33/ عاماً يقول في لحظة صراحة: تعرفت على فتيات كثيرات سواء في الجامعة أو في محيط أسرتي، لكني لم أستطع أن أحب إحداهن، وكانت علاقتي بهن تقتصر على الممارسات الجنسية السريعة، لكني حين بدأت أفكر في الأمر عرفت أنني كنت مخطئا جداً وخاصة بعدما لجأت لطبيبة نفسية استشرتها بخصوص علاقاتي الخاطئة. اليوم أنا متزوج وأب لطفلة جميلة وأنصح جميع الشباب بعدم التهور والتعدد في علاقاتهم الجنسية لأن ذلك سيأخذ وقتا طويلا للتعافي النفسي.
«نجوى» –عاملة- /27/ عاماً تحدثت بجرأة وقالت: حين تعرفت بالشاب الأول في حياتي كنت أعتقد أني إذا منحته جسدي فإنه سيحبني ويتمسك بي، لكني صدمت حين تركني بعد علاقة دامت سنة كاملة دون شرح، وهذه الصدمة جعلتني أكرر التجربة ظنا مني أن العطاء يولد الحب، علما أني لو تلقيت النصيحة بعكس ذلك لما ارتكبت تلك الحماقات… اليوم أدركت معنى الخطأ في ذلك الاعتقاد وأتمنى أن يسامحني اللـه على الماضي، وأن أجد من أعيش معه الحب لعلاقة صحيحة ملؤها الاحترام.
بعد ذلك يتحدث «ايريك فروم» عن «حب الذات» حيث يفصله تماما عن «الحب الأناني» الذي لايرى فيه الشخص إلا نفسه، وهو يريد كل شيء لنفسه، ولا يشعر بأية لذة في العطاء، بل يشعر بها في الأخذ، فيستشهد بقول الفيلسوف «ايكهارت» الذي يقول: « إذا أنت أحببت الجميع على السواء بما في ذلك نفسك فسوف تحبهم كشخص واحد، وهذا الشخص هو كلا اللـه والإنسان، ومن ثم سيكون شخصاً عظيمًا وعلى حق ذلك الذي يحب نفسه فهو يحب جميع الآخرين على حد سواء».
المهندس «سعيد» رئيس قسم التدريب الإداري في إحدى المؤسسات يقول: يعتبرني الجميع في المؤسسة من الأشخاص الذين يحبون ذاتهم نظراً لما أتمتع به من شخصية قيادية ولما أقوله عن نفسي بهذا الاتجاه، لكني أود أن أطرح عليكِ سؤالا هاما:هل يستطيع أي إنسان أن يحب نفسه؟ وببساطة أجيب أن لا، فمن خلال تجربتي ووصولي إلى مركزي الحالي كنت دائماً أنظر إلى نصف الكأس الممتلئ في كل مشكلة، وغالبا ماكنت أحمي نفسي من أية اضطرابات أتعرض لها فأقيّم نفسي باعتدال ودون إدانة، وأتجنب القضايا السلبية، وأعمل الأشياء التي تجعلني أفضل من أجل النجاح، مازاد من نضجي، وعمّق ثقتي بنفسي.
ثم ينتهي «فروم» بالحديث عن حب اللـه الذي يسعى إليه الإنسان للوصول إلى مملكة العالَم الروحي، مملكة الحب والعدل والحق، والنظرة الصوفية التي لايرى فيها أن مهمة الإنسان الدينية هي بالتفكير الحق وإنما مهمته بالسلوك الحق للاتحاد مع اللـه في فعل التأمل المركز.
السيد «ناهل» –عازب- /57/ عاماً يقول: منذ صغري كنت أستمع لصوت القرآن وأشعر بانجذاب شديد لتلك الآيات التي لم أكن أفهم أغلبها، لكن والدي رحمه اللـه ساعدني كثيراً على شرح كل ماكنت أسأل عنه فكبرت على حب اللـه وحب تلك الآيات، وقرأت كثيراً عن المتصوفة مثل «ابن الفارض، وابن عربي، وجلال الدين الرومي، وغيرهم كثيرين، وقرأت عن وحدة الوجود حيث عدم الانفصال بين الخالق والمخلوق، وصرت أعيش لحظات طويلة في الذكر والتأمل الروحي وتركيز الذهن في الملأ الأعلى، وهذا لايعني أنني متصوف وأمارس طقوس المتصوفة لكني أربي نفسي وأحاول السمو بها بغية الوصول إلى معرفة اللـه تعالى.
خاتمة
يقول «فروم»: «القدرة على التركيز تعني القدرة على الوحدة مع النفس. وهذه القدرة هي شرط دقيق للقدرة على الحب».