شرائح المجتمع السوري في مواضعها دون لافتات وإعلانات…«بانتظار الياسمين» عدسة الواقع ورصد الغد القادم
إسماعيل مروة :
الدراما في هذا الموسم تركت مجالاً لمقاربة الأزمة السورية، وربما كان لعامل الوقت الدور الأبرز في تقديم صورة فيها من القرب الواقعي ما فيها، وربما جاءت محملة عن الواقع البالغ القسوة، وإن كانت دراما العام الماضي قد اقتربت من الأزمة على استحياء في الداخل والخارج، فقد أخصلت هذا العام لها، وخاصة في أعمال منتجة داخل سورية، وأنجزها صنّاعها على الأرض السورية، وتحدوا كل الصعاب في صناعة الدراما.. ولا أبالغ إن قلت إن الدراما التي قاربت الأزمة وانتجت داخل سورية كانت أكثر واقعية ومصداقية وقوة وقسوة في الوقت نفسه، وقد تراوحت هذه المقاربات في تناولها حسب رأي كتابها وصناعها، فمنها أعمال حاولت أن تأخذ مكاناً ليست فيه لتمارس عملية التشريح، ومنها أعمال اكتفى أصحابها بما هو أمامهم، فشرحوا وتعمقوا في وجدان الإنسان السوري وهمّه الاجتماعي، ومنها أعمال فرضت طبيعتها أن تقدم لوحات تقارب ما يحدث بأسلوب ساخر تصل سخريته الروح، ولكنها تبقى مجرد فشة خلق لا تظهر عمق المعاناة.
بانتظار الياسمين
عمل مهم للغاية، وقد قرأنا الكثير عنه في مراحل إنجازه، وها نحن نشاهده في رمضان، ويقدم لنا ملحمة إنسانية لكل إنسان سوري، وقد حرص الكاتب أسامة كوكش، بإصرار أو بصورة عفوية أن يكون خارج إطار التأطير والانحياز، ولم يدخل عوالم ليست عوالمه، فلم نشاهد كواليس الأجهزة الأمنية، ولم يدخل في صميم الجانب الآخر بأطرافه المتعددة، بل قصد عمداً إلى المجتمع السوري بشرائحه كافة من خلال الأسر التي تقيم مشردة في حديقة عامة، والخيوط الدرامية تصلها بالعالم الخارجي المحيط المماثل أحياناً بفارق التشرد، والميسور، ليقدم تشريحاً مجتمعياً مهماً.. حكايات متعددة وخطوط درامية للمجتمع السوري قبل الأزمة تجلوها الحوارات والفلاش باك، هذا المجتمع المتعدد القائم على الفهم والقبول، مع وجود اعتراضات كانت وراء تمزقه، والبحث عن ملاذات أخرى، يصعب اختصار هذه الخطوط التي أدارها بحنكة سمير حسين مخرجاً، وأداها ببراعة عدد من نجوم وممثلي سورية، فسلاف فواخرجي قدمت دوراً للذكرى والذاكرة، وصل مداه عند لحظة اغتصاب الزعران وتتابعهم على جسد امرأة ليس فيه أي شيء، وخاصة مع لقطات الصفع المتتابعة من زاهر الذي يريد للمغتصبة أن تجاوب وتنفعل، وصمتها وعيناها وحزنها كان مرتسماً ليقول للمشاهد: إنه أمام شخصية قد ترمز لسورية التي تنتهك وتغتصب في كل لحظة، سواء كان هذا الاغتصاب حقيقة أم تحرشاً.. علامة مهمة في مسيرة سلاف هذا الدور الذي أدته ببراعة، فزادت من فجائعية النص، وأعطت كاميرا المخرج أبعاداً إضافية بما ملكت من إحساس عال، وقراءة مهمة للدور ودلالاته، وغسان مسعود قدم الدور الأكثر تميزاً في هذا العمل، من حيث البساطة والنبرة والحركة فكان الرجل السوري الذي جار عليه الزمن، لكنه على الدوام يؤمن بأن الغد قادم، وأن الياسمين يزهر كل موسم، فلم تفت من عزيمته الكوارث التي تعصف به، ومحمود نصر كان ولادة نجم، وصباح جزائري حملت في علائم وجهها الأم السورية المنتمية الخائفة القوية القادرة، التي تعرف ما تريد وتتحدى كل شيء.. كل من في العمل أبدع، ولا أرد ذلك لإدارة المخرج وحده، فهم طاقات مذهلة، فهل يذهب في البال دور أبو الشوق للمبدع أيمن رضا، الذي بلغ الذروة في مشهد الاغتصاب، وجملته الدالة على تتابع الاغتصاب؟ ومحمد الأحمد العبثي المهموم في الوقت نفسه، محمد حداقي الذي كعادته يؤدي دوراً مهماً يبرع ما بين وظيفته ودافعه الإنساني، وكوامن محمد قنوع التمثيلية كانت واضحة، أما شكران فأستاذة في الإقناع، وسامر إسماعيل قدم لواعج روحه، والقائمة تطول لنادين ومعتصم النهار وزهير رمضان وعلي كريم وخالد القيش، والنجمة جيانا عيد التي أدت الدور الأمومي والدمع يطفح من عينيها، والأطفال والصبايا استطاع المخرج أن يخرج بأفضل ما لديهم.. مشاهد مؤثرة كالاغتصاب والتفجير والانتقام قدمها المخرج فكانت مؤلمة، لكنها لم تكن أكثر إيلاماً من واقع التشرد الذي يعاني منه الجميع، وهذا الواقع كان مربوطاً بعناية بالحاضنة الاجتماعية التي تظهر بجلاء أسباب الوصول إلى هذه الحالة، من تفكك أسري ومجتمع استهلاكي وبحث عن ملاذ بعد ضياع الحنان، ففي أسرة علي كريم يصدق عنوان البحث عن بيت دافئ، وفي أسرة فائق العرقسوسي البحث عن امرأة مثال، وهذا ما يدفع براءة سامر إسماعيل وحياته العابثة إلى العناية بأسرة ملكت مقومات الأم كما وجدها في الحديقة.
من الرئة إلى الرئة
إن كان ثمة ما يقال في أعمال قاربت الأزمة أو عالجتها، ففي بانتظار الياسمين نجد انتظار ما لا ينتظر، انتظار العاجز حيناً، وانتظار من يحاول أن يصل إلى الياسمين، ولكن عندما يحين موسم الياسمين هل يمكن أن نمارس عملية الانتظار، وهل الياسمين يستحق الانتظار أم البحث عنه؟! في قلب الأزمة، في رئتها كتب العمل وأخرج ورأى النور، ولم يستثن العمل أي شريحة من الشرائح التي تمثل المجتمع السوري، ودون مجاملة، استطاع العمل أن يضع هذه الشرائح في مكانتها دون أن يعمد إلى التنظير، ودون أن يلوح بمفهوم الوحدة الوطنية، بل كانت انتماءات الملل والطوائف شفافة للغاية، وكانت النتائج منطقية، فقد دفعت لمى المرأة نتيجة هذه الاختلافات البيئية والمذهبية، وكان الزوج تيم ضحية، وكان الضياع لثمرة التمرد من نصيب الأطفال! وأبو جوزيف ليس أكثر من شفاف يؤدي شخصيته ببراعة حسام تحسين بك، يحلم بنفسه ووحدته والآخر، لكنه لا يمارس عملية البطولة، بل يغلبه عجزه وسؤاله عن شيء ما، وموقف شكران من لمى يمتزج فيه الإحساس المريض في قضية الملل والطوائف، والغيرة من الجمال، فأدت ردود الفعل والتصرفات كما هي في الحقيقة، ولم يلجأ صناع العمل إلى التجميل ومحاولة إضفاء لمسة وطنية غير موجودة، وإن كان ثمة من تحول في موقفها، فكان الموقف مرتكزاً على اختطاف البنت وما تعرضت له لمى، فقد أعادتها المصائب إلى صوابها، وإحساسها بالخوف من أن تنال ما نالته لمى..! الألم الذي وحّدهما وجعل موقفها متغيراً.
وقد عمد العمل إلى سياسة مهمة وهي البحث عن عمل، مهما كان نوع هذا العمل، ليتمكن الإنسان من العيش، فما من أحد لا يعمل صغيراً أو كبيراً، وفي مواجهة عصابات السرقة قدّم العمل صورة متكاملة لهذه العصابات التي تلح في السرقة والتعدي على الآخرين، ومايز بين أنواع النفسيات التي تتخذ من الاعتداء على الآخرين غاية، والتي تتخذ من الإثراء غاية، نوعان متشابهان، لكن الأول يضيف الأذية للأشخاص بما يتجاوز حدود السرقة.
حالات جمالية
قدم حالات جمالية إلى العمل، لكن هذه الحالات الجمالية كانت متقدمة لا يستغنى عنها، فمقابل البنت الباحثة عن الحرية والمساكنة والمتعة تكون الأخت، وكأن كل واحدة منهما تمثل جانباً من الأسرة، واحدة تشبه والدها، والأخرى تترسم خطوات الأم، فجاءت الحالة الجمالية التي تمثل شريحة كبرى من الشباب السوري الذي يرفض القتل، والذي قد يفهم من جانب أنه مصنف، لكنه ليس كذلك على الإطلاق، فكانت الجولات بين عاشقين حالمين بسورية وياسمينها بين أورقة المتاحف والمساجد والكنائس ومعاهد التعليم للتدليل على الغد القادم بحالة جمالية تبحث عن الحياة ولا تنكفئ، وتعبر عن آرائها حيال ما يجري، وتؤدي دورها في التوعية، وكانت هذه الحالة معادلاً درامياً، معقولاً في مواجهة الجانب الآخر الأخت الباحثة عن الحرية، وهي ليست حالة سلبية بالمطلق، كما أن الحالة الجمالية ليست إيجابية بالمطلق، فمن هذه الحالة الجمالية انسربت العلاقة الخاصة إلى الأب الذي ينطلق في حالة تشبه حالة ابنته الأخرى الباحثة عن ذاتها والحنان، وتمكن المخرج من إيجاد حالة من التوازن لم تنجح بهذه الحالة إلى النتوء التنظيري، والحالة الأخرى التي عبر عنها العمل، فأجاد المخرج في تقديمها، حين أخذها على طزاجتها دون أن يعمل على تحميلها ما لا يمكن أن تحمله، وهي حالة العائلة الكردية، التي نكتفي برؤيتها وسماع أغنياتها دون أن يكون لأفرادها أي نوع من أنواع التنظير، عائلة كردية شأنها شأن الأسر السورية مهما كان انتماؤها تتعرض للتهجير، وتكون الحديقة ملاذاً لها، وها هو العزف والغناء باللهجة الكردية والنغمة الحزينة يهيمن بينما الكاميرا تقرأ ملامح سكان الحديقة، فتتوحد اللغة وإن كانت غير مفهومة، وخاصة مع أخذ الكاميرا لوجه الأم والأب الصامتين أبداً، لا لافتة ولا عبارات دالة على الوحدة الوطنية مهما كانت مهمة، ولا إغفال لدقائق وتفاصيل الحياة اليومية المستمرة رغم الأزمة، فمشكلات الناس لم تتغير على الرغم من الأزمة.
الياسمين سيزهر
الإنسان بمختلف توجهاته في العمل يؤكد أن الياسمين سيزهر، فلا القتل ولا التدمير ولا التهجير استطاع أن يأخذ من نفسية السوري وإبائه، فالنماذج على اختلافها تمتعت بواقعية مميزة، آمنت بالواقع وعاشته، وعينها ترقب الغد الآتي، وهذا يحمل رؤية تفاؤلية على الرغم من الفجائعية، وأزعم أن صناع العمل شأنهم شأن كل سوري طالته هذه الحرب بفاجعة، وكما أصرّ السوري على الحياة أصروا هم، وقدموا عملاً غير منحاز إلا للإنسان والمجتمع، وهذا المجتمع يستطيع أن ينهض من قلب الرماد مهما كان الرماد عالياً، السوري بحاجة لرؤية مثل هذا العمل المؤلم بمضمونه، الشفاف في طرحه، الذي يقتل الداخل، ولا يخدش الإحساس والحياء، بمفارقات قاتلة، عندما ينتهي تيم وذنبه الوحيد البحث عن ربطة خبز..!
كل من في الحديقة له حياته، وها هو يستمر في البحث عن عمل يعيش منه ليستمر دون أن يمارس التسول والاتجار بالجسد كما حاول كثيرون تصويره في أعمالهم، دون أن يهمل ما تتعرض له المرأة في الأزمة من عنف جسدي وجنسي، وما تتعرض له الطفولة من انتهاك وحرمان، لذلك يستحق منا هذا العمل المتابعة والإشادة، ومهما قيل فإنه مشروع اجتماعي يرقى إلى عدسة الواقع والحلم والمستقبل لسورية المفجوعة المغتصبة الراصدة بعينين قويتين إلى المستقبل.
هل ننتظر الياسمين؟
المحرر :
عمره قصير ذلك الياسمين، وعبقه لا ينتهي وخاصة إن تحوّل إلى رمز ومدينة وأرض ووطن، وقبل عرض المسلسل كنت أرى اعتراضاً على العنوان، ففعل الانتظار فعل عاجز، وينطوي على مخاطر أكثر من أن تعدّ… والعجز لا يمكن أن يصنع الغد، والانتظار السلبي لا يقدم شيئاً، والياسمين لا يقترب من أحد لا يرعاه ويزرعه ويحتفي به، وينقل غرساته بين مختلف الأماكن، ليكون في الزواريب، وعلى أسيجة الدور والبنايات… صار في كل مكان، لكن في الشام يحمل نكهة أخرى ورائحة لا تغادره إلى مكان آخر… وبعد عرض المسلسل رأينا شخصيات العمل السورية البسيطة التي تتقدم من الحياة معتمدة العمل، فخورة بأرضها وحاضرها، واثقة من مستقبلها، لا تمارس البكائية المرضية على الحياة الماضية.
موفق ذلك الحديث عن سيدة تعمل في البيوت حتى لا تتسول، وتحفظ عفة بنتيها وطهارتهما، والأب الحرفي الماهر الذي يتجاوز ماضيه وعمره ليعمل حمالاً يستغني عن سؤال الناس، والفلاح الذي يزرع أرض الحديقة ليعيش، ويزرع في ذهن ابنه الكبير أن الزراعة هي القدر المكتوب لابن الأرض.. كل مجريات العمل لم تعتمد فلسفة الانتظار بقدر ما اعتمدت إظهار السوري الحقيقي الذي يتحدى أي ظرف، يبني بعد الخراب، يزرع بعد الهمجية، يؤمن بفلسفة التجذر!
وكم من مرة جاء على لسان الشخصيات ضرورة المواجهة والعمل والصبر، حتى الذي تحوّل إلى شخصية مأزومة لظرف أسري، وتحوّل إلى الشراب، انحاز إلى الناس وكان مواجهاً ومجابهاً، لايقبل إلا أن يكون خيطاً من خيوط النسيج السوري المصنوع جيداً بيد قدر لا يقدر أحد على تجاوز صنعتها.