ثقافة وفن

سليمان العيسى شاعر القومية العربية والطفولة في ندوة ثقافية … عاش الحلم القومي ومات مؤمناً ببقائه… أعطاه عمره وشعره.. وغادر مطمئناً .. د. ملكة أبيض أولى مشاعرها نحو الشاعر كانت الاحترام.. ومضت تشاطره الدرب والكفاح وكل شيء

| سوسن صيداوي -«ت:طارق السعدوني»

لأنّ الشاعر كبير، واسمه أصيل، ولم يغادر يوماً طفولته أو وطنه أو حبه لعروبته، ولأنه كان يرفض دائما الاستخفاف بحلم قوميته وهو دائم التمسك بحرف الضاد حتى النهاية، وتزامنا مع ذكرى رحيله الرابعة، حيث غادرنا الشاعر سليمان العيسى في تاريخ 9 آب من عام 2013. برعاية وزارة الثقافة أقيمت ندوة ثقافية شهرية في نسختها الثامنة على مسرح الدراما بدار الأسد للثقافة والفنون، جاءت الندوة تحت عنوان «سليمان العيسى شاعر الحلم والطفولة» وبمحاور أساسية في مسيرة حياة الشاعر، شارك فيها زوجة الشاعر، الأديبة الدكتورة ملكة أبيض والدكتور دياب الراشد والدكتور نزار بني المرجة.

للندوة محاور
استهل مدير الندوة الدكتور إسماعيل مروة الحديث عن ذكرياته مع الشاعر الراحل وتعرفه عليه، مشيرا في بداية حديثه كيف أنه في البداية لم يكن منجذبا لنوع شعر سليمان العيسى، إلا أن حروفا كتبت على ورقة بيد الشاعر سليمان، فيها دعوة إلى اللقاء، حبر تلك الكلمات جُبل بالدم وبمحبة محكوم عليها بأن تكون مؤبدة، ومن بساطة الذكريات إلى مشاركة الطعام وعمق الأفكار والمشاعر، عرف إسماعيل وتأكد وأكد خلال الندوة أن الشاعر سعى في أشعاره لبناء أجيال دمثة الأخلاق محبة للحياة متمسكة بالوطن ومتجذرة في عمق المبادئ والأسس، مشيراً إلى أن مسيرته الحافلة بالعطاء الغني والمتنوع تستحق التكريم والوقوف عندها خلال سني حياتنا مهما تتابعت لمحاربة النسيان، بل على العكس لتعزيز كلمة الشاعر سليمان العيسى بيننا وبين العرب، كي تبقى نابضة بحب الطفولة والوطن والعروبة ومتمسكة بكل القضايا.

قيثارة الطفولة
تحدث د. دياب راشد في أول محور للندوة حمل عنوان «سليمان العيسى قيثارة الطفولة» عن أهمية شعره وإسهامه في تربية الطفل باعتباره الغرسة المزروعة في تربة الأوطان التي يجني ثمارها الأحفاد في بناء المستقبل، مضيفاً إن اتجاه الشاعر سليمان إلى أدب الأطفال لم يكن وليد مصادفة، أو من قبيل الترف الفكري، أو تنصلا من معالجة الواقع السياسي، بل كان إدراكا من الشاعر لضرورة تهيئة الجيل للنهوض بالعبء الجليل في إلغاء الحدود، وهدم الجدران بين أقطار الوطن العربي الكبير، ورسم سنبلة القمح، وتيلة القطن في العلم، ليعملوا على استعادة كل شبر سليب من ترابنا. كما ذكر د. راشد مناسبة جمعته بالشاعر، وكيف خيّل إليه حاله وبأنه يعيش مترف الحال في قصر فاخر، وحول هذا قال الشاعر سليمان العيسى «أنا أكتب للأطفال، وليس عند الطفل إلا ابتسامته، وهي رأس مالي». متابعاً لا أكتب للصغار لأسليهم، ربما كانت أي لعبة أو كرة صغيرة أجدى وأنفع في هذا المجال، وإنما أنقل إليهم تجربتي القومية، تجربتي الإنسانية، تجربتي الفنية، أنقل إليهم همومي وأحلامي». كما ذكر د. راشد خلال حديثه عن سؤال تم توجيهه للشاعر عن سبب كتابته للأطفال، فأجاب الشاعر قائلاً: لمن تريدون أن أكتب؟ وهل هناك موضوع أجمل وأغنى وأهم؟ وهل شبع أدباؤنا وشعراؤنا من الكتابة للصغار حتى أسكت، وأطوي هذه الرغبة بين الضلوع؟ أدبنا العربي محروم من شعر الأطفال، وشعراؤنا ما زالوا يخجلون من وضع بسمة الملائكة على شفتي طفل، أعني من كتابة نشيد للصغار، يخجلون أو يترفعون أو يتهيبون..، تظل النتيجة واحدة، ويظل أطفالنا محرومين من بسمات الملائكة على شفاههم، أعني من الأناشيد الجميلة، من الشعر الحقيقي، ويظل أدبنا العربي، ذو التاريخ العظيم، محروما من أحلى ينابيعه، أعني الأطفال، ورحم الله شوقي الذي أحس هذا، فلبّى، وفتح لنا الطريق أيا كان الطريق. الأطفال هم فرح الحياة ومجدها الحقيقي؛ لأنهم المستقبل، لأنهم الشباب الذي سيملأ الساحة غداً، لأنهم امتدادي وامتدادك في هذه الأرض، لأنهم النبات الذي تبحث عنه أرضنا العربية؛ لتعود إليها دورتها الدموية؛ التي تعطلت ألف عام، عروقها التي جفت ألف عام».

المرأة كتاب الحياة
في المحور الثاني من الندوة تحدثت د. ملكة أبيض عن الطفولة التي لم يغادرها يوما شاعرنا الكبير بالرغم من أنه اضطر للهجرة من وطنه الصغير وهو ما يزال فتى في السادسة عشرة من العمر. وكيف ظلت أطياف والده الشيخ أحمد وأمه القروية وقريته تملأ كتاباته الشعرية والنثرية، للصغار والكبار. وكيف أنه يعتبر المرأة هي كتاب الحياة بحبها وعطفها وأنوثتها وأمومتها وبكليتها التي تحتوي بها كل العالم. مشيرة إلى أنه حين كانت والدته على فراش الموت، رفضت السلطات المحتلة أن تسمح له بالدخول إلى اللواء لوداعها، ثم توفيت من دون أن يراها، وودعها بقصيدة مؤثرة بعنوان «إلى روح أمي» تقول بعض أبياتها:
روى ضريحك دافق النور
وسقتك عاطرة الأزاهير
أنا لم أزل طفلا وأغنية
في منزل بالحب مغمور
ومضيت من غسق إلى غسق
وتعبت من سفري وتهجيري…
تبقين منديلا يلوّح لي
خلف الدروب وليل مأسور
وبالنسبة لرفيقة دربه وعمره وشريكته في الحرف والفكر والمشاعر والحياة والأطفال، تحدثت د. أبيض كيف جمعها القدر بالشاعر سليمان وبأنهما لم يدريا أن ذلك سيدوم العمر كله. وبأن أولى مشاعرها نحو الشاعر كانت الاحترام، احترام الموهبة الشعرية، احترام ثقافته الواسعة، احترام شخصيته البسيطة، احترام حلمه، احترام كفاحه.. وكيف مضت في الدرب نفسه تشاطره الكفاح وكل شيء. وتابعت الدكتورة حديثها عن سليمان الشاعر فقد كتب عن هذا اللقاء، أكثر من نص شعري ونثري، تغنى فيه بمشاعره إزاءها. فعلى شاطئ اثني عشر عاما من رفقة العمر، كتب قصيدة بعنوان «دربي الصغير»:
بيدي اخترته.. قيدي الصغير
من ربيع دائم في القلب،
من برد غدير
أتقي الصحراء فيه
كلما أسلمني الإعصار من تيه لتيه
مدّ لي في ثقة اللحن الذي روّى الوتر
باقة سمراء من ضوء القمر
باقة سمراء
عذبة كالماء
فجّرته بغتة أضلاع صخرة
فسقى الشاعر.. والحلم ، شعره
ويعود الشاعر بعد عقدين من الزمان ليؤكد الأساس الذي قامت عليه علاقته العاطفية والزوجية المتينة في نص نثري بعنوان «الليلة الثانية والثلاثون» ممثلة شخصين زمرديين، خولان وخولة، جمع القدر بينهما، يقول «وذات مرة قص الفتى «خولان» على حبيبته «خولة» قصة «العمل الكبير الذي قرر أن يهبه نفسه، وأن يقف عليه حياته وشعره… ومنذ تلك اللحظة كانت «خولة» رفيقة طريقه وشريكته في كل شيء… كانت واحدة من الجيل الذي ينتمي إليه جيل الحب والرؤى والصدمات».
تتابع الدكتورة إن الشاعر سليمان العيسى جمع في عام 1998 ما كتبه عن المرأة في ديوان مستقل تحت عنوان «المرأة في شعري» جمع نتاجه حول المرأة في مختلف مراحل حياته، كما يشرح الأديب فاروق شوشة قائلاً المرأة جناحه المحلّق في اغترابه ومنفاه بعيدا عن موطنه في اللواء السليب، وهي رفيقة نضاله وكفاحه في ليل المواجهة وصراع المستبدّين الطغاة، وهي شريكة القلم في كثير من آثاره القلمية، خاصة حين يترجم. ومنذ ديوانه الأول «مع الفجر» كان هذا العناق والالتحام في رحلة الحب والمصير».
كما أشارت د. أبيض في حديثها إلى أن الشاعر سليمان، يرى «فيروز» بأنها تمثل انطلاقة الفن العربي بعد ركود طويل وتكرار محزن، والفن أرقى مظاهر الثقافة، ففي ديوان «المرأة في شعري» كتب سليمان العيسى للمرأة الفنانة (فيروز)
فيروز.. يا شبّابة الراعي بسفح الجبل
غنت فللعطر بلادي كلّها والغزل
تنقلي على القلوب كرفيف القبل
أمواج لحن… نبعه الأول صدر الأزل
يفتح للأجيال والشعر كوى المستقبل…
كما كتب عن المرأة الشاعرة، والمبدعة عموما، إيمانا منه بدور المرأة في الحياة ندّا للرجل، وبكونها صاحبة رسالة تُبنى عليها الحضارات. ومن هذا المنطلق أيضا، خلّد بطلة الجنوب اللبناني سناء محيدلي، وأبدى اعتزازه بتخريج أول دفعة من الفتيات في الكلية العسكرية بدمشق. كما كشفت د. ملكة أبيض خلال حديثها عن موضوع لا يعرفه إلا قلة من الأصدقاء، وهو أن سليمان اضطر-خلال إقامته مع زوجته في صنعاء-إلى البقاء بعيدا لأشهر في دمشق لأمور تتعلق بإنتاجه. وخلال هذه الفترة التي أمضاها وحيدا رأى نفسه ينكب على الورق ويكتب لزوجته ديوانا خاصا أعطاه عنوان «وأكتب- قصائد صغيرة لها ولي» صدر في صنعاء عن الهيئة العامة للكتاب.

حلم القومية
في المحور الثالث للندوة تحدث د. نزار بني المرجة عن رسالة العروبة التي نذر الشاعر سليمان العيسى نفسه لها، بشقيها الإنساني واللغوي، فكان بحق يجسد في شخصه وتجربته ومنجزه الشعري(جمرة الضاد) وحاملها بأصابعه وهي الشيفرة الوراثية الوحيدة الباقية في زمن محونا وإبادتنا كعرب وكهوية، مشيرا إلى أن الشاعر وثّق بألم لمعاناة الشعب الفلسطيني معبرا عن مشاعر الأمل والتعبير عن إرادة لن تقهر تارة أو تموت تارة أخرى وكان من الملاحظ الربط بين مأساته الشخصية وأهلنا في لواء الإسكندرون ومأساة شعبنا العربي الفلسطيني ويقول مخاطبا لاجئاً فلسطينياً:
أنا مثلك استلبوا ملاعب فجري استلابا
أنا مثلك، اغتصبوا تراب طفولتي الحلو اغتصابا
ويقول أيضاً:
أرض العروبة كلها جرح يصيح بلا جواب
في كل زاوية، فلسطين مدنسة التراب
ولكن شاعرنا ورغم كل الإحباطات التي ميزت السنوات الأولى للنكبة لم يكن ليعدم الأمل، معبرا بقوة عن إيمانه بالنهوض بعد الكبوة ومؤكداً التجذر والانتماء، والعلاقة الجدلية الراسخة بين الأرض والإنسان:
كجذور السنديان.. كالصحارى كالزمان
سوف أبقى.. سوف أبقى
متابعاً د. نزار حديثه إن الكثير من قصائد الشاعر أصبحت معتمدة في مناهج التعليم والتدريس في مراحل دراسية مختلفة في عدد من الأقطار العربية لتتعزز مكانته كشاعر قومي بامتياز، ومن تلك الدواوين على سبيل المثال: مع الفجر، أعاصير في السلاسل، ظلال عطشى، بين الجدران، ثائر من غفار، قصائد عربية، أمواج بلا شاطئ. فضلا عن مسرحيات شعرية وجد بعضها طريقه إلى المناهج الدراسية كمسرحية: ابن الأيهم، الإزار والجريح.
كما ذكر د. نزار حادثة في عام 2007 بمناسبة حفل تكريم الشاعر سليمان العيسى في نقابة المعلمين حيث قام بتعديل بيته الشعري الأكثر شهرة وللمرة الثانية ويقول:
لغة الضاد.. لن تموت وإني
أتحداك باسمها يا فناء

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن