أضرحة دمشق ومقاماتها إجلالاً وتخليداً للعظماء
منير كيال :
تحرص الأمم والشعوب التي تهتم بتراثها، على إقامة نصب ومشيدات لمن كان لهم دور في بناء البلاد وسؤددها وثقافتها… من أجل أن تبقى أعمالهم ماثلة بذاكرة الأجيال.. فتحفزها على الاقتداء بها، والسير على نهج أولئك الرجال.
ولئن كان إطلاق اسم شارع أو مدرسة، بل إقامة نصب تذكاري من هذا القبيل، فإننا نجد بدمشق تسميات على شوارع تحمل للأجيال معاني أعمال، أو كوارث مرت بها البلاد.. ومن ذلك إطلاق تسمية الحريقة على محلة سيدي عامود بوسط مدينة دمشق تلك المنطقة التي كانت عامرة فعمدت القوات المحتلة إلى قصفها بالمدفعية، والطائرات فتحولت إلى خراب، فالتسمية تذكر بما عاناه أسلافنا للوصول إلى الاستقلال وكذلك تسمية التجريدة المغربية التي تذكر الأجيال بتلاحم الأشقاء العرب، للذود عن كرامة الوطن، والوقوف في وجه العدو الصهيوني المغتصب.. وبالتالي التأكيد على دور الوحدة والتلاحم في حياة وبقاء وطننا العربي.
وفي هذا المجال، فقد ترك لنا أسلافنا مشيدات مقامات وأضرحة من شأنها الإبقاء على ذكراهم في حياتنا.. ذكرى مقرونة بأعمالهم ومنجزاتهم ومواقفهم.
فالمقامات ترب أو مدافن على غرار الأضرحة فيكون البناء بمنزلة وسيلة تذكر بصاحب هذا البناء ودوره في بناء عزة الوطن، وتكامله ونجد بدمشق أضرحة ضم ثراها رجالاً أو نساء رائدات ومقامات ومدافن قامت مقام أضرحة درست أو أزيلت معالمها خلالما تعرضت له دمشق من أرزاء ومحن، وكان إطلاق تسمية الخراب على محلة الخراب عند التقاء شارع مدحت باشا بشارع الأمين.
ولابد من التوقف بعض الشيء أمام جمال البناء وزخرفته سواء من حيث نمط البناء أو مخططه، فقد كان للزخرفة دور كبير في البناء.
وإذا خلت بعض هذه الأبنية عن الزخرفة في محيطها الخارجي فإن هذه الزخرفة تكون وافرة بداخل البناء وخاصة ما كان منها متعلقٌ بالنقش على الحجر والرخام والتطعيم «التنزيل» بالحجر، وكذلك فإن ما كان يتعلق بالتجارة في هذه المشيدات من حفر وتنزيل وتطعيم من حيث توافرها، والتفنن بها، وعلى هذا فقد كان للزخارف النباتية والخطوط الكتابية المنقوشة على الحجر أثر كبير بزخرفة هذه المشيدات سواء ما كان منها على الأضرحة والترب أو المقامات.
وكان لكل دور من الأدوار التاريخية التي مرت بها دمشق أساليبه الخاصة في بناء وزخرفة هذه المشيدات.. ونذكر على سبيل المثال أن العصر الأيوبي كان من العصور التي انفردت بعناصر مبتكرة ذات خصائص مميزة.
فقد خضع بناء الترب من حيث الهندسة والتصميم لقواعد وأساليب فنية دقيقة في موضوع التناسب والتناسق بين عناصر البناء فضلاً عن العناية بالزخارف.
كما إن ما أنشئ بالعهد المملوكي من هذه المباني خضع لأسلوب يتمثل في جعل مكان الضريح في حجرة خاصة يقابلها محراب لمصلى صغير، ولذلك البناء مدخل غني بالمقرنصات، كما روعي في هندسة واجهة البناء التناظر بالأشكال فجاء المدخل في وسطها.
وفي جميع الأحوال يمكن أن نميز في هذه المقامات والأضرحة بين أضرحة الملوك والسلاطين وأضرحة الأمراء والولاة ومقامات أهل البيت وبالتالي مقامات وأضرحة الصحابة والتابعين، مضافاً إلى ذلك المقامات والأضرحة في مساجد دمشق وكذلك ترب الصوفية ومن كان في حكمهم.
فقد ذكر البدري في «نزهة الأيام في محاسن الشام»، ما كان بمدينة دمشق من مقامات لأهل البيت والصحابة والتابعين، وقد أتت هذه المقامات بديلة من الأضرحة وبخاصة ما كان منها بتربة الجراح، مقابل تربة باب الصغير، ومن ذلك، مقام السيدة حفصة (ر) ابنة عمر بن الخطاب (ر) وزوج النبي (ص)، ومقام السيدة سُُكينة بنت الحسين (ر)، وكذلك مقام السيدة أم سلمة زوج النبي (ص).
وكان من هذه المقامات مقام السيدة زينب (رض) ابنة الإمام علي كرم الله وجهه وأمها فاطمة الزهراء (ر).. وقد شهد ضريح السيدة زينب (ر) تطوراً نوعياً وفنياً في إطار إسلامي ويقصده الزوار من أنحاء العالم الإسلامي.
ومن مقامات أهل البيت بتربة الجراح مقام عبد الله بن الإمام جعفر الصادق ومقام عبد الله بن جعفر الطيار.
وكان من مقامات وأضرحة الصحابة والتابعين بدمشق: ضريح بلال بن رباح الحبشي مؤذن رسول الله (ص)، وضريح عبد الله بن أم مكتوم (ر) وكذلك ضريح السيدة فضة بمقبرة باب الصغير. وكذلك ضريح ابن تيمية وضريح مؤرخ دمشق ابن عساكر وابن كثير وأيضاً مقام صهيب الرومي (ر).
ولو توقفنا بعض الشيء عند أضرحة الملوك والسلاطين، لكان علينا أن نذكر، قبر معاوية بن أبي سفيان، بالركن الجنوبي من مقابر أهل البيت في تربة الجراح، وقبر معاوية بن يزيد، وهو الخليفة الأموي الثالث الذي اعتزل الخلافة بعد شهرين من ولايته لها، الأمر الذي جعل الخلافة الأموية تنتقل من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني.
وهناك ضريح السلطان نور الدين الشهيد، بالمدرسة النورية الكبرى في سوق الخياطين بدمشق، وقد كان مكان المسجد الذي به قبر نور الدين الشهيد دارة للخليفة معاوية بن أبي سفيان، وقد بنى نور الدين هذه المدرسة، وكان قبره بركن فيها وأهم ما يميز هذا البناء القبة المقامة عليه، وهي ترتكز على رقبة من خمس طبقات بحيث تتوالى فيها النوافذ والمحاريب مع الأهرامات المقلوبة، فهي بذلك من القباب الفريدة الغنية بالتفاصيل المعمارية.
ثم هناك ضريح الملك العادل، وقد دفن بقلعة دمشق فلما بنيت المدرسة العادلية الكبرى، قبالة تربة الملك الظاهر بيبرس، نقل رفات الملك العادل إليها.. وضريح الملك موسى بن العادل بتربة الأشرفية شمالي الجامع الأموي عند المدرسة الجقمقية بالكلاسة، أما صلاح الدين الأيوبي فقد دفن بقلعة دمشق ثم نقل رفاته إلى تربة بناها ابنه عبد العزيز وهذه التربة شمالي الجامع الأموي. وقد تميز بناء ضريح صلاح الدين بقبته المحززة التي تقوم (تستند) إلى رقبة مضلعة بستة عشر ضلعاً، وهي مزينة بالنوافذ التي تتناوب مع المحاريب ونجد من هذه الأضرحة ضريح الملك الكامل ناصر الدين، عند الزاوية الشرقية من الجامع الأموي، وضريح الملك الناصر حسن بن صلاح الدين بالتربة النجمية الواقعة بحي سوق ساروجة.
أما تربة الملك الظاهر بيبرس فهي من أجمل الترب، بما تتميز قبتها العالية المزينة بالفسيفساء الزجاجية، وهي مزينة بالرخام الملون والكتابات المذهبة بزخارف محفورة على الحجر، ولهذه التربة بوابة معقودة بالمقرنصات، وفوق الضريح قبة لها رقبة بثمانية أضلاع، وقد دفن الملك الظاهر في بادئ الأمر بالقصر الأبلق الذي كان مكان التكية السليمانية، وقد بنى السعيد بن الملك الظاهر هذه التربة أو المدرسة مقابل المدرسة العادلية الكبرى بباب البريد، وبالتالي دفن بها والده.
ومن هذه الأضرحة ما كان للسلطان زين الدين بالمدرسة العادلية البرانية بسفح جبل قاسيون، وضريح الملك شمس الدين دوباج بالتربة الدوباجية بالصالحية.
أما أضرحة الأمراء والولاة ومشايخ الطرائق الصوفية فيمكن أن نعدد منها ما كان لأخوي السلطان صلاح الدين: شاهنشاه وتورشاه بالتربة النجمية والمدرسة الشامية بسوق ساروجة.
وقد حوى العديد من المساجد والجوامع بدمشق أضرحة أو مقامات لأعلام من صحابة رسول الله (ص) والتابعين، ومنها ما كان لأهل الحظوة من أصحاب الكرامات، التي يتوسل إليها البسطاء من الناس، ويقدمون لها النذور والشموع والزيت على سبيل البركة، والتقرب إلى الله جل وعلا عسى أن ينالوا مرادهم من أمور الدنيا.
ومن هذه الأضرحة والمقامات ما كان له صلة برجال الحكم، أو السلطة آنذاك مع الأخذ بعين الاعتبار، أن تلك المقامات لا تعدو أكثر من رمز أقيم بالمسجد ليقوم مقام الضريح، على سبيل الذكر بصاحب المقام وأعماله أو خدماته للمصلحة العامة ونذكر من ذلك:
مسجد أبي الدرداء، أول قاضٍ بدمشق زمن الخليفة عمر بن الخطاب (ر) وقد توفي أبو الدرداء، ودفن في مقبرة الجراح شمالي مقابر آل البيت بدمشق، ولأبي الدرداء مقام بالمسجد المسمى باسمه بقلعة دمشق، وكذلك الصحابي صهيب الرومي المدفون بالمدينة المنورة، وله مقام بحي الميدان بدمشق في مكان يُقال له سيدي صهيب.
وهناك مسجد الصحابي أُبيّ بن كعب الأنصاري، وهو من كتاب الوحي، شهد موقعة بدر وأحد والخندق والجابية، يقع هذا المسجد عند التقاء طريق الطبالة بدمشق مع طريق الدويلعة، كما أن هنالك التربة الجقمقية التي بناها نائب السلطنة المملوكي سيف الدين جقمق وهي إلى القرب من باب الجامع الأموي بالكلاسة، وقد تميزت هذه التربة بزخارفها التي لا يضاهيها أي من الأبنية الدمشقية التي تعود إلى العصر المملوكي.
كما يمكن الإشارة إلى جامع تنكز الذي بناه الأمير المملوكي تنكز الناصري بشارع النصر بدمشق، ودفن به مع الإشارة إلى ما جرى على هذا الجامع من تجديد، بحيث لم يبق من البناء القديم غير المئذنة، وقد بنى الأمير غرس الدين النوريزي جامعاً بالشويكة من قبر عاتكة ودفن بالتربة المحاذية لهذا الجامع، وقد بني هذا الجامع بأسلوب الأبلق بحيث يكون مدماكاً من الحجر الأسود يليه مدماك آخر من الحجر الأبيض، وفي أعلى الجدار الغربي شريط زخرفي، ونجد أن الرقبة التي تستند إليها القبة التي تغطي التربة من طبقتين باثني عشر ضلعاً وبأعلى كل ضلع من رقبة الطبقة العليا نافذة.
وفي حي العمارة الجوانية جامع كبير غني بالزخارف، وقد جدد هذه الجامع على نمط العمارة الإيرانية الغنية بالزخارف، وكان هذا المجسد يُعرف باسم مسجد الرأس، نسبة لرأس الإمام الحسين (ر) وقد دفن بهذا الجامع رأس الملك الأيوبي محمد العادل.
كما نجد بالجهة الشرقية من صحن الجامع مقام السيدة رقية بنت الحسين (ر)، وتعلو مقام السيدة رقية قبة غنية بالزخارف، وهذه القبة تستند إلى رقبة ذات نوافذ بأقواس وبين القبة والرقبة شريط من الكتابات القرآنية، أما المقام فهو من صفائح الذهب، وتزينه الكتابات القرآنية والحشوات الزخرفية الملونة.
فضلاً عن هذا فقد وجد في دمشق العديد من ترب وأضرحة الصوفية ومن كان لهم صلة بالحكام ممن دفن بترب خاصة بالمساجد أو في ترب خاصة لهم ونذكر من هؤلاء:
تربة ابن المقدم المعروفة باسم تربة سيدي طلحة، والتربة الخاتونية بالصالحية وكذلك تربة محمود زنكي شقيق السلطان نور الدين، وهي بمحلة عين الكرش بدمشق، ونجد بدمشق ضريح الشيخ محي الدين بالجامع الذي يحمل الاسم نفسه، كما نجد ضريح الشيخ أرسلان الدمشقي إلى الشرق من باب توما. وهذا الضريح بجامع يحمل الاسم نفسه، وقد جدد هذا الجامع زمن المماليك، وكان آخر تجديد له سنة (1409هـ).