الدولة الكرتونية
| د. نبيل طعمة
شخوصٌ لبوسها إسلامي، تفرغ بوساطة الفاكيوم، تعدّها قياداتها المفرغة مسبقاً، تقدّمها للآخر المحكومة منه، يصنعها ويملؤها من منتجات ديزني لاند، مزودة بتعاليم مصاصي الدماء وآكلي لحوم البشر، أفلام الخيال اللاعلمي أنجزت في عقل الظلمة المفرطة سيناريوهات وهمية نفخت في هوليوود، حملت جميعها أهدافاً خبيثة وخفية، استدعي لها الكثير من مفكري الـCIA وMI6 مع MOSSAD، اشتركوا جميعاً لخلق حالة من الوهم والإرهاب الذي لم يظهر له مثيل في التاريخ الحديث.
فجأة شهد العالم ولادة عنواننا الذي أطلق عليه تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام، أو اختصاراً داعش، وفي لغتهم (ISIS) المشبعة من مفردات سراديب بابل، وقسوة إيزيس الفراعنة التي بنوا من خلالها أمجادهم وآثارهم، هذا الذي وُلد من رحم جموح السعي للسيطرة على العالم، لم يعرف الكثيرون من والده، ولا إلى أين يسير، تمتع بهالة إعلامية كبيرة، قدمته وأضاءت عليه بشكل خطِر مبرمجٍ بدقة، حتى كاد يصبح رعباً، وشكل حركة استعراضية سريعة وعنيفة في انقضاضها على المشهد، لنجده بذي عزوم، تسارع حضوره، نشهد اليوم انهياره وتلاشيه كتلاشي الهلاميات تحت أشعة الشمس، لم نتعجب، فالذي يعرف آليات إظهار القاعدة في نهاية سبعينيات القرن الماضي يصل تماماً وبسرعة إلى الكيفية التي أنبتت منها داعش ومن يديرها، ومن أجل ماذا كانت، وهذا ما دعاني لتسميتها بهذه التسمية في عنوان هذه المادة، وأشير إلى أنه يمكن حملها وتركيبها في أي بلد، أو دولة، أو رميها على شعب وأمة، ومن السهولة بمكان تفكيكها وإخفاؤها، لماذا؟ لأن منتجيها لا يمكن أن يقبلوا بها كدولة ذات وزن، لذلك شكلت من أدوات خفيفة يسهل نقلها.
مؤكدٌ أن المتورطين في إنشائها كثرٌ، والذين دعموها وكانوا أبواقاً، وقدموا المرتزقة، وحملوا ألسنة اللؤم والغدر أكثر، أدانوا أنفسهم مع اقتراب الانتهاء من هذا المشهد بأنفسهم، وبدلاً من بدهية المواقف بحكم الأسباب الموضوعية من الإرهاب والتطرف والتطييف، ومعهم أصحاب الالتباس والانتهازيون والرماديون المشكلون لأخطر أشكال الدعم الظاهر والخفي، كل هؤلاء لعبوا أدواراً في ظهورها، وغالباً من دون فهم لما يريده المنشئ الرئيس لهذه الدولة الافتراضية التي عاثت خراباً ودماراً فكرياً واجتماعياً على أجزاء مهمة من العراق وسورية، وبثت رعبها في العالم أجمع، حتى طالت تهديداتها وأفعالها داعميها ومنشئيها.
للأسف مازال الكثير من المسلمين يعتقدون أن حضور عنواننا كان بمشيئة الله، وتعلق الكثيرون بفرح شرورهم بدراية أو من دونها، وعلى أن أفعالهم تكليف يقومون به ضد الكفرة، حيث نجد أن إشارات الشرّ مسكونة في التعاليم السمحة، محملة بطريقة خطرة جداً، ومتوافرة وعاملة ضمن التفاسير والأحداث الماضوية في تاريخ هذه الأمة، استثمرت من مصنعيها بحرفية عالية، وإذا كان لكل مجتمع خصوصيته، فلا بدَّ أن يكون لديه أيضاً أسراره التي مهما تكالبت عليه الظروف تبقِه أو تبقِ بعضه، تدعه ليعيد لوجوده الحضور بعد أن تكون قد امتلكت النضج الإيماني الذي يأخذ بها لأن تكون.
من يفعل بالأمم أفعال الشر؟ من الذي يذيقها أطعمة المرارة ويسقيها من شرابات العذاب؟ هل تعلم المجتمعات وحتى الأمم مجتمعة أو متفرقة أن الشرور ستحلّ بها؟ هل يحدث ذلك من أجل العودة إلى نقائها الذي بدأت منه؟ ومن ثمَّ تلوثها بالشرور، وأنَّ الحاجة تدعو أو غدت ماسة للتخلص مما علق بها، لأن سكون الشر في داخلها يمنحها إشارات دائمة، فإن لم تستوعبه، وتعمل على لجمه تمكن منها، وأخذ يعمل فيها بغاية إنهائها إلى أن تتفهم قواها الإيجابية، ومن ثمَّ تتعلم كيفية التعامل معها.
من يقدر على فهم الظلام المسكون في داخله؟ تأملوا معي كيف ينكشف العالم بتسارع مذهل أمام من؟ طبعاً أمام إنسانه. لمصلحة منْ أيضاً؟ لمصلحته. ومن سيسعى لذلك بعد أن كان مغلقاً ومحجوباً عن سواد البشرية؟ أليست مشاعر المرارة مسؤولة بشكل مباشر عن ظهور فعل الشر؟ إذا تركناها تنمو وتسيطر ألا يكون مصيرها الغزو من دول كرتونية؟
إنَّ ما قامت به سورية والعراق ومعهما لبنان أخيراً ولو جزئياً هو من الأهمية بمكان، لأن ما حصل يشابه المعارك المقدسة، لأنه ضد كل الإرهاب، ضد كل الإرهابيين، هل وصلنا نحن العرب لفهم خطط المشغل الرئيس للإرهاب في العالم؟ الشمس والقمر يقولان إنه أميركا، من قرأ كيسنجر في سبعينيات القرن الماضي، وهنري لويس، وبعدهما هنري ليفي، وكلينتون هيلاري، يعلم الفكر الذي يشتغلون عليه، فجميعهم يقولون: (إنَّ الذين نقاتلهم اليوم نحن أوجدناهم ودعمناهم وموَّلناهم بموافقات من المنظومة السرية التي تحكم العالم)، وإن إستراتيجيتهم الدائمة التي تفرض على الجميع أن حروبهم بلا هزائم، الآخرون بلا نصر من أجل إبقاء التخلف، وهدم أي حالة تطور، فالقاعدة فرخت داعش بمناصرات علنية من فروعها أنصار الشريعة، وأنصار الإسلام وجيوشه، وبوكو حرام، وأبو سياف، حيث من كل هؤلاء تفرخت النصرة وعشرات المسميات بل المئات.
في المقارنة نجد أن المشهد ذاته الذي قامت به أميركا مع القاعدة تعيده مع داعش، هل فهم العالم وأدرك ما الذي ستفعله بعد هزم هذه الدولة الكرتونية المسماة داعش عسكرياً، فعلياً من سورية والعراق، ومعهما روسيا وإيران وكل القوى الخيِّرة، ماذا سيفعل الغرب حصرياً؟ أوروبا حينما يعود إليها مواطنوها، وعاد الكثير منهم خفية وعلناً إليها بعد دحرهم من الشرق الأوسط، حتماً سينتهي الشكل التقليدي لهذا التنظيم، كما انتهى إليه في الشرق الأوسط حتماً وقبله، فهل سيتوقف منتجوه هنا؟ أم إنهم ذاهبون لإنتاج شكل آخر بمسمى آخر؟ فالهدف الرئيس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي هو شرذمة العالمين العربي والإسلامي، ومن ثمَّ هدم الصين، وبعدها روسيا.
هل يصحو أولئك الممولون والداعمون من العرب أن مصيرهم بيد الآخر؟ وليس القادم ببعيد ليحل بهم بحكم ما أنتجوه، هل أدرك العرب نفثهم لسموم الوحشية التي يبثونها فيما بينهم مستخدمين ما قدمه لهم الغرب من أدوات تواصل إعلامي مرئي ومقروء ومسموع، ولو أننا أجرينا استطلاعاً بين الشعوب وإداراتها لوجدنا أن الخلل في الروابط كبير، وللأسف الأمة العربية، هل كانت لترضى بالذي حصل ويحصل وسيحصل، ومنه نجد أن نشر الوعي وتعزيز دور مفردات الجمال من خلال التركيز على ثقافة نوعية تخصصية، تنطلق من الفنون السبعة وتعزيزها، حيث منها تتشكل أهم أدوات محاربة التطرف والرهبة والإرهاب، وعلى ما يبدو في حاضرنا أن التطرف والإرهاب أصبحا أهم سمات عصرنا المعيش، والسبب ازدياد الفقر، وضياع أحلام بناء المستقبل قلة وندرة فرص العمل، ومن هذا نجد أن قوى الشر جاهزة دائماً لتوظيف هذه التراكمات عبر اختراقهم واستغلالهم بشتى السبل، ومن ثمَّ دفعهم لتنفيذ مهام تشعل ذاتها، فتحرق وتحترق إلى أن تذوب، النتيجة تدمير للبنى والقوى، غايته تأخير أي عملية تطوير أو تقدم والعودة إلى الوراء؛ أي إضعاف الأمم الواحدة تلو الأخرى.
هل نستفيد من تجارب الشرِّ التي مرت بنا وهي تنتهي الآن؟ وهل نستعد لما بعد مرحلة انهيار هذه الدولة ومنتجاتها، ونسعى بالعلمية والعمل الجاد لإفناء فكرة عودتها؟.