غبار الفساد
| زياد حيدر
في زمن أحد وزراء الإعلام الدهريين (ممن صمدوا دهراً في موقعهم)، تناول كتاب كثر الكارثة البيئية التي تتوج بها مشروع معمل إسمنت مدينة طرطوس. فقام التلفزيون السوري، في التسعينيات، بتقرير طويل عن الآثار البيئية المدمرة للمعمل، والتقى فيها المسؤولين، كما المواطنين..
في ذاكرتي الصورة تتكرر، لأحد الفلاحين وهو ينفض الغبار الإسمنتي، عن وريقات شجر الزيتون، متحدثاً عن الشجرة المصابة بما يشبه العقم منذ سنوات. مزارع آخر في يده حبة ليمون كلسية اللون، يصيح بالمذيع متحدثاً عن تراجع الإنتاج نوعية وكماً.
يليه معلق يتحدث عن «ضريبة الحضارة» التي تتجلى في المعمل بهذا الشكل، من التلوث الرهيب. كل ذلك كان مزعجاً، لكن كثراً تجاهلوا صورهم التلفزيونية المرتبكة، ليعلقوا على مسؤول المعمل حينها، الذي قال إن تراجع المحصول الموسمي في تلك المدينة سببه «كسل الفلاحين» لا التلوث الغباري!
كتبت الصحافة المطبوعة أيضاً، وأحياناً كثيراً كما في زاوية الصفحة الأخيرة من صحيفة تشرين «قوس قزح». كان أهل قرية حصين البحر وكل القرى والبلدات المتضررة، بسبب قربها من مداخنه، يتلقفون كل خبر يرتبط بهذا المعمل، ولا يضيعون فرصة في إظهار ضرره البالغ علناً. لذا في الفترة ذاتها، أخبرنا أحد الزملاء الصحفيين، أن الوزير منع مادة انتقادية للمعمل وتلويثه البالغ، على الرغم من أن الحملة الأساسية ضده جرت في عهده. وحين استفسر الزميل عن السبب، نقل إليه، رأي الوزير، بأن «الحديث في هذا الموضوع لا طائل منه، وأنه بات يسبب إزعاجاً «فوق».
حينها تراجعت الأقلام، وجفت الحلوق. لكن بعد ما يزيد على خمسة وعشرين عاماً، يتوضح لنا، نحن المتواضعين في الحكم والتقييم، أن تلك كانت في الواقع الفرصة الذهبية التي أضعناها، كجيران لهذه المنشأة المدمرة للصحة والبيئة، وككتاب، وكمواطنين على العموم.
كان الصحيح أن يتراكم الإزعاج حتى يصبح منغصاً ومقلقاً، ومهيباً. كان يمكن حينها لهذا الإزعاج، الذي بدورنا لا نعرف مستواه النفسي والعصبي «فوق»، ولكن كان يمكن حينها أن، يعني ربما، وكان يمكن أن يصل بنا لمكان.
بكل الأحوال أفضل من المكان الذي نحن به الآن من نفض غباره السام على شبكات التواصل الاجتماعي.
وللحق، استمررنا. لم نيئس، وذلك حتى سنوات الأزمة الأولى في الحديث عن ضرورة وحتمية وأهمية (بتلك الكلمات الرنانة) وضع حد للغبار الإسمنتي القاتل الذي تتلفظ به مداخنه.
وقيل لنا أشياء كثيرة من بينها أن فلاتر ركبت، ولكنها في الواقع لا تعمل إلا نادراً، وحين نسأل، يكون الجواب بمكررات فنية، من نوع، طبيعة المواد المستخدمة، وقدم الآلات، والفيوزات التي تحترق.. إلخ.
والحقيقة المرة الأخرى أن ثلثي عاملي المعمل، إن لم يكن أكثر، هم من سكان القرى المتضررة.
أي إنهم ينتجون السموم ذاتها التي تقتص من أعمار أولادهم ونباتاتهم.
مفارقة من مفارقات بلدنا، ولكنها ليست حديثة، ولا علاقة للحرب بها. بل هي مستأصلة، منذ عقود واسمها الفساد، الذي هو أسوأ من الحرب، وربما من مسبباتها، منذ أربعة أعوام. شكوت دخان المعمل لمسؤول كبير، مهتم دوما بقضايا الناس وشجونهم. فقال ما يرن في الآذان «حبذا الموت البطيء، حين يكون الموت بهذا الشكل اليومي في بلادنا».