اقتصاد

«البحار السبعة» طريقها وحزامها

| علي محمود هاشم 

بعد محادثة قصيرة بين مملكتي تدمر السورية وهان الصينية، ولد طريق الحرير الصيني متكئاً إلى عظمة الشرق بتاريخه وجغرافيته.
لنحو ثلاثة آلاف عام، لم يكن للملل أن يتسلل يوماً إلى تجاذب عالمي الشرق، على دروبه، وحده التخلّف العثماني بنزعاته الاستحواذية، نجح في الانهيال بجسده سدّاً أمام تواصله الحضاري لما يزيد على القرون الخمسة، قبل أن يعاجله الغرب بآخر.
في 2008 أطلق الرئيس بشار الأسد فكرته لـ«ربط البحار الخمسة»، هذه المبادرة التي كان لها أن تؤسس لإعادة نسج خيوط الشرق المتقطعة، وتأسيس قاعدة كفوءة لتعاون دوله في فضاء من الشراكات المتشاطئة: جنوباً من البحرين الأبيض والأحمر والخليج العربي، إلى الأسود وقزوين شمالاً، ضمن رؤى منفتحة تصافح بحر البلطيق، سادساً.
بحار الأسد الخمسة، جاءت تأسيساً تاريخياً لإيقاظ الكينونة الشرقية التائهة وإعادة الاعتبار لجغرافيتها التي أنهكها التكالب الاستعماري، منبرية بذاتها كرد الضرورة الحضاري على سقم مشاريع الشرق الأوسط الكبير بحمولتها من الاستعلائية الغربية على ظهور منظري إثنياته وأهلّته المذهبية، مستندة في ذلك إلى قوة التاريخ الذي اصطفى المركزية السورية والعراقية في بيئتهما الطبيعية شرق المتوسط.
وهذه الكرّة أيضاً، لم تتأخر نزعة الحرملك العثماني شمالاً، وفي أعتى نسخها التاريخية حماقة، عن تعبّد أسواط الغرب، جنباً إلى جنب مع كياناته الوظيفة جنوباً.
في 2013 وغير بعيد عن بحار الأسد، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ مسار التاريخ العالمي الجديد مكتسيا مبادرته «الحزام والطريق»، ضامّاً بحرها السابع: بحر الصين، لتكتمل ضرورات استنهاض المشرق بأيقونته الاقتصادية والثقافية التي مثّلها طريق الحرير التاريخي، بترجمته الراهنة طرقاً تجارية وممرات اقتصادية تربط أكثر من 60 بلداً في القارات الثلاث آسيا وأوروبا وإفريقيا، عبر شبكات السكك الحديدية وقناطر النفط والغاز وخطوط الطاقة الكهربائية والاتصالات والبنى التحتية البحرية.
عملاق آسيا الذي استيقظ حقاً، ومن علوّ قارّيته الحضارية والاقتصادية، يلمح كينونة الشرق مرتكزاً إلى قواعده الثلاث: روسيا شمالاً، الصين شرقاً، وبطبيعة الحال، سورية والعراق بوابته الغربية إلى القارات الجارة.
كلا مبادرتي الرئيسين الأسد وجين بينغ، تتشابك كحلقتين متداخلتين بفرادة: متطابقتين، كتوءم ولدا من رحم الشرق المهمّش الذي لفحته الممارسات الاستعمارية موجة تلو أخرى، ونزعته الجارفة إلى استعادة ذاته من جيوب الغرب، ومتكاملتين حيث الجغرافية السورية العراقية، قاعدة البحار الخمسة، أشبه بمحطة قارية لطريق الحرير الصيني يتلاقى تحت مظلاتها القادمون والمغادرون من وإلى آسيا وأوروبا وإفريقيا.
ومع حضور العامل الروسي الرابض شرق المتوسط، وتحالفاته الاقتصادية الصينية مطّردة التعمّق حتى قعر درر اقتصاده الطاقوية، بات «فضاء البحار السبعة» و«أحزمته وطرقه» التجارية، «أقرب من حبل الوريد».
بلا شك، سيكون على الصين إيلاء الجغرافية السورية العراقية حقها كحجر الزاوية في فضاء «البحار السبعة/ الحزام والطريق» الجديد، وبانتظار حسمها لنهائية مقاطع طريق حريرها الصيني التدمري، يجدر بها التيقن من أن تلك الجغرافية هي الأكثر تناسبية مع سعيها لتصريف فوائض إنتاجها عبر مسارات تجارية قارية، ومع تطلعاتها إلى إعادة التصنيع في دول قريبة من الأسواق استجابة لإستراتيجياتها في التفرغ التدريجي لاقتصاد الخدمات والصناعات الفائقة.
فمن وجهة سياسية، لم يدع الغرب الكثير من دول الإقليم التي يمكن الركون إليها في صون مصالح الشرق الإستراتيجية على المدى الطويل، ومن أخرى اقتصادية تكرسها ظروفهما البشرية واللوجستية والطاقوية الواعدة، تبدو البيئتان السورية والعراقية القريبتان من طي صفحة الحرب عليهما، المحطة الأجدر لإطلاق النقلة الاقتصادية الصينية العالمية التالية.
من شاطئنا السوري، وفيما بعض مؤسساتنا تجهد في تهجئة «التشاركية» و«التوجه شرقاً» بكثير من التأتأة، يتسرب الوقت الذي تتطلبه جاهزيتنا التشريعية والاستثمارية لبناء جزر تجارة حرة عملاقة بموانئها ومخازنها الإستراتيجية وبناها التمويلية، استعداداً للشمس التي ستسطع على العالم دفعة واحدة.. ومن الشرق هذه المرة أيضاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن