انتظروا!
| عصام داري
وصلتني برقية عاجلة هذا الصباح تعلمني أن الشتاء على الأبواب، نسيمات باردة طرقت بابي، هي التي حملت البرقية، والنسيمات تعرف أنني أعشق الشتاء وأهيم بالخريف، فكانت البرقية بشرى لي بأن الصيف الذي كوانا وشوانا رحل وموعدنا بعد عام.
البرقية– البشرى أفرحتني، ففي الشتاء يطيب السهر ويتفتح الذهن وتتدفق الأفكار وتصبح الكتابة أرحب ويحلو الزجل والغزل والشعر والموسيقا والغناء وكلها أغذية للروح وفيتامين للنفس، ومقويات للجسد.
سأفتح أبوابي ونوافذي وقلبي لهذا الوافد العائد، وسأنتظر مواسم خير وعطاء ومطر وثلوج تعطينا جرعة حياة تروي عطشنا بعد جفاف ويباب وقحط في الفكر والحياة وحتى في صنوف الأدب والفن.
الصيف فصل الفرح والمرح والجنون والخروج على القانون، على الأقل قانون شيخ القبيلة، وفي الصيف يجب أن تصدر قوانين ملزمة تمنع الكتابة والرتابة، لأنه فصل كسل المخ ونشاط الجسد.
ولأن الأمر كذلك بالنسبة لي كنت أخشى أن يتجمد الحبر في قلمي، أو أن يصاب بداء الزهايمر، أو ربما بالشلل، وكنت أخاف ألا أجد مساحة بيضاء على الورق كي أرسم عليها كلماتي النازفات ألماً ووجعاً ودماً، لكن قوة الحصار والنار تلهب حماسة الأقلام فتكسر القيود، وتملأ الدنيا صراخاً وغناءً وأناشيد ملحمة ضاربة جذورها في أعماق تاريخنا الحضاري ذي الرقي والأمجاد، فننسى الحصار ونصبح نحن الذين نحاصر حصارنا، كما قال محمود درويش ذات يوم.
مع أن همومنا صارت بحجم وطن، إلا أننا نصنع بأنفسنا حزم نور من شموعنا لتكون المشاعل التي تهدينا إلى الطريق الصاعد نحو مستقبل نستحقه، وغد مزروع بأزاهير البنفسج والليلك وأشجار الكبّاد والنانرج والدوالي.
ومع أن قلبي جريح ينزف على مدار الساعة كأنه يبكي على ما ضاع ولن يعود، لكني لن أرفع الراية البيضاء فأنا أقاوم مع المقاومين، وأحاول الحفاظ على شمعتي كي لا تطفئها العواصف العاتية التي تضرب عالمي المتعب ووطني، فالأمواج تتكسر على شواطئنا وتتحول إلى زبد على الرمل، وألسنة اللهب التي تصلينا ليل نهار، لن يبقى منها إلا رماد وبقايا قصة حزينة.
أمس عزفت كعادتي على أوتار الطبيعة الخلابة حتى الصحراء فيها جمال وسحر لا متناه واليوم سأقلب صفحاتي وأبحث في دفاتري العتيقة التي سجلت فيها منذ زمن بعيد كلمات جميلة.. ناعمة في عيد ميلاد الشتاء والمطر الآتي والثلج الموعود.
سأراهن بكل رصيدي على الفرح القادم الذي يجهز على سنوات الجمر والقهر، الفرح من صنعنا، والتفاؤل شريكنا، والأمل طريقنا، والدعوة مفتوحة لعشاق الحياة والحب والنور.
بعد عذابات أوجعت أرواحنا، وبعد مذابح عاطفية واجتماعية واقتصادية ونفسية، والضياع في متاهات وعذابات، نكتشف أننا نبتعد عن مسارنا الذي كنا رسمنا خطوطه العريضة، ونقف على شاطئ الخيبة نلعن حظنا العاثر، وطالما ألقينا مسؤولية فشلنا على الحظ العاثر، لكن علينا ألا نتوه في الدروب الوعرة، وألا ننسى نعمة وروعة الحياة.
اليوم، ومع النسمة التي أنعشتني في الساعات الأولى من النهار، أهديكم تحية جديدة مغمسة بالعطور ومزركشة بالزهور وموقعة من آلهة الحب والخصب والجمال.