علمانية سورية
| د. نبيل طعمة
قامت الحياة التي احتاج الإنسان من خلالها لتأسيس بدء لها، وفعل ذلك من مبدأي الزمن الذي يجسد حركته ويسجل إنجازاته والتأمل الروحي في أوصاله، إلا أن هناك مكوناً، فعل بشكل أو بآخر كل هذه الحياة، واختصَّ إنسانها بالعقل، وأودعه أفكار الاشتغال لها وإعمارها وتوليد المفيد لها من خلال احترام العقل لممتلكاته، وأهمها الإيمان، ومن ثمَّ المحافظة على استقلالها، بعد أن قام العقل ذاته بفصل ما يريد من الزمن عما يريد الروحي، معتبراً أن الروحي تأديبي وتحصيني لجوهر الأخلاق، والزمني إبداعي وإنتاجي، الواجب المضي به من أجل بناء مكونات يحتاج إليها الإنسان في حركته وسكنه ضمن ذهنية مجتمعنا الإسلامي.
مذهبٌ سياسي اقتصادي اجتماعي فلسفي، ظهر وانتشر بين الشعوب والأمم، وتوزع بينها فارداً مساحة للنقاش بين مؤيد ومعارض، بين مؤمن ومكفّر، بين التفكير في الحياة المعيشة وحاجتها والآخرة وتخيلاتها، ومن الممكن ألا نصل إلى قصد الفكرة العائمة على سطح الحياة، التجريب ربما يأخذ بنا إلى تحقيق المنشود والوصول إليه عندما تكون المكونات صحيحة ودقيقة وسليمة.
دعونا نساعد الفكرة ونعمل لها بإخلاص، فإن لم تفعَّل فلن تكون، لكوننا سرّ الكون والعلم المحيط الذي لا يمكن لنا أن نحيط به، لذلك منحتنا اللغة الإنسانية العاقلة والقائلة: «وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً»، والعلم يتحدث عن ذاته مطالباً إيانا بالنجاح، ويقول: إن لم تكن الأول فأنت الأخير، وهذا لا يصح إلا حين البحث عنه بغاية الوصول إليه تخصصاً لا جمعاً أو نقلاً أو نقداً، وإذا فعلنا في الواقع المرتجى لا نصل إلى الدنيا، ولا ندرك صورة (هو) العلمية المسكونة تسليماً روحياً في أذهان البشرية، وللأسف إننا بشكل خاص مجتمع تسوده الحماسة والعواطف والحب الكاذب والتدين الفردي والاستسلام للغيبي الذي يسعى وراء الإله لغاياته الشخصية، ولا يسعى لإعمار الأرض والإنسان والكلي الجامع اللامع في القلوب والأذهان.
للمشككين والرافضين وللمنفعلين العاملين ضمن التيارات الدينية ومؤسساتها الوسيطة أقول فارداً رأيي بأنَّ علمانية الدولة منهج حياة، والديمقراطية بند من بنودها، وهي تدعونا للإيمان العقلي، لأن الروحي سكنه القلب، والدولة العلمانية غاية تكوينية وفلسفة جوهر الحركة والمسير مع المساعي القريبة والأهداف البعيدة المرجوة منها، وتوءمة الفلسفة والسياسة حاجة فهمتها المجتمعات المتطورة، أو التي اعتمدت التطور أساس حياتها، من باب أن الفلسفة أداة معرفة وحوار، والسياسة أداة الاقتصاد الذي كلما نما ازدادت قوةً، واستخدامها لها يتراوح بين الناعمة والخشنة، لتبقى بحالة السيطرة، وإذا كانت العلمانية أسلوباً تأخذ بها القيادات السياسية، فلأنها تؤمن بمبادئ إقامة دعائم الحياة اليومية الهادفة لتوحيد المجتمعات وتخليصها من أفكار التطيُّف والمناطقية والدينية المفرطة آخذةً بالعقل الإبداعي المنتج ومستندةً إلى ما توصل إليه العلم عبر حركة التاريخ والمنجز في الحضارات المتتابعة، لتضيفَ إليه وتراكمَ الخبرات عليه، ومنه نرى أن الاتجاه للأخذ بعنواننا والعمل الحثيث لتحويله إلى منهج عمل وسبل مسير، يؤكد أن ما تطرحه سورية وتمارسه فعلاً هو الاتجاه لإثبات وجودها بعد ولادتها الجديدة من رحم ما شابها من أزمات ركّبت عليها، وأنها قادرة على معاملة جميع مواطنيها وعلى اختلاف أديانهم ومذاهبهم ومشاربهم ومناطقهم بشكل متساوٍ في الواجبات والحقوق وقيادة مجتمعهم ودولتهم والإسهام كل من موقعه، من دون النظر لديانته واحترام ما يخص جوهر كل فرد منهم، وكان منها أن جسدت علمانيتها كنهج دولة قوية بكسر كامل التابوهات، واختارت فرداً عضواً في مجلس شعبها ليترأسه، بحكم أنه مكون من مكونات عقدها الفريد، بما يؤمن به كل فرد لديه القدرة على الإسهام في تعزيز بنائها وقدراتها، من دون التطلع من أي معتقد أو منطقة، وهذا فعلاً ما نحتاج إليه، لأن العلمانية كمذهب سياسي تهتم بشكل رئيس بالقضايا الدنيوية، وإذا تفكر المرء قليلاً يعلم أن وجوده وجود عمل وإنتاج وإبداع، لأن المسافة التي ينبغي أن يقطعها الإنسان ليست بالكبيرة، لذلك أجد أنَّ من المهم جداً الاتجاه للإيمان بمبدأ العلمانية الحياتية والابتعاد عن رفض ما تحمله من قيم وعدم تكفير حامليها الذين إن آمنوا بها آمنوا بالنتيجة بالمكون الكلي، فالذي يؤمن بالفلسفة يصل إلى الكلي المسكون في جوهر الأشياء، ويجده منثوراً على ظواهرها وآثارها، فالعلمانية وفي جميع اللغات العالمية القديمة منها والحديثة تعني العِلم والعالم والعَلَم الذي ينبغي أن نتجه إليه، وينضوي تحت لوائه الجميع ضمن حدود سياسية، قسمت جغرافيا المجتمعات إلى دول، أسكنت فيها كل أشكال الخلاف والاختلاف، وجعلتها عرضة لشرارات الفوضة الدينية، لأنها الأسهل، وحينما نأخذ بالنهج العلماني، ونتعامل معه ضمن خصوصيتنا، نقدم للعالم أنموذجاً فريداً، نبني من خلاله وطناً، ونعزز به وطنية الفرد القائمة من الأداء والانتماء، وأنَّ لا فضل ولا تفضيل لأي كان في هذا الوطن إلا بمقدار ما يقدمه من جهد حقيقي لا وهمي وإخلاص له ولبنائه ولإنسانه.
إلى ماذا تحتاج المجتمعات؟ هذا هو السؤال المهم والأهم من أجل استمرارها وتوارثها للأفضل والإضافة عليه، والغاية تطوير حضورها وثبات بقائها وخلود آثارها، والنزعة الإنسانية المتطورة تدعو للاهتمام بالإنسانية ومنتجاتها وإفادة حضورها مع احترام الشؤون الدينية لكل مجموعة عنها المرتبطة دائماً بالثانوية والأخروية والآخرة، والهدف الدائم لها إعلاء شأن الإنسان وما يرتبط به مع إغناء محيطه بعلوم الجمال ومفردات الثقافة كالنحت والرسم والتصوير والموسيقا والعمارة والمسرح والسينما، لأن الإنسان لحظة أن يموت يموت بمفرده، يتجه إلى الآخرة من دون فهم دقيق لمفردات السعادة والرفاهية في الحياة الأخروية، مع احترامنا وتقديرنا لكامل الرؤى.
ها هي سورية تقوم من جديد، تقدم ذاتها بقوة فكرها وأفكارها، يعززها لها سيّد الوطن قائدها ورئيسها الذي ومنذ ظهوره عليها قدم رسالةً بعنوان التحديث والتطوير اللذين يعتبران من أهم بنود العلمانية، وها هو الآن يرسل بفعله الواقعي رسائله للداخل أولاً، يقول فيها للمعترضين والمؤيدين إننا في هذا الوطن لدينا هم واحد هو بناء إنسانه وإعمار بنيانه، وليكن أساس تفكيرنا وأول عملنا وحدته وأمنه وأمانه.
هذي سورية فسيفساء نادر وعقد فريد لكل مكون فيها دوره ومهامه بشرط التجانس، ومعه يحدث التكامل، فلا تنافر، ولا تناحر بعدما اجتهد الوطن، وأخذ التخلص من كل ما تعلق عليه من شوائب.
هي دعوة من خلال ما تحقق ليس في مجلس الشعب، وإن كان سابقة، وإنما في كامل مفاصل سورية التي اتجهت بقوة لتحقيق مبدأ العلمانية العلمية المؤمنة بالله والوطن وبحامليها، لأن الأخذ بها كمنهج عمل يؤدي إلى تطورها واستعادة مكانتها كدولة حضارية، دولة مؤمنة لا دينية، تحقق معادلة أنَّ الدين في جوهر الإنسان والعمل للوطن.
سورية تطور إدارات بنائها وذهنيات أبنائها السائدة بالعلمانية الواقعية، وتستعد بعد أن استفادت من كل ما حصل معها ومرَّ عليها، للإفادة من أخطائها، ومن كل إبداع أنجزته دول أخرى، وتسير بثقة إلى الأمام، والأهداف واضحة، تكمن في تحقيق التطور وصولاً إلى تأمين سعادة أبنائها وإيمانهم بوطنهم.