بين القنابل «النووية» والقنابل «الدخانية»: هل أصبحت داعش هي الداء والدواء؟
فرنسا – فراس عزيز ديب :
تبدو القنبلة الدخانية كنوعٍ من أنواع التمويه على العدو، يساهم بحجب الرؤية حتى يتمكن الطرف المقابل من إعادة التمركز أو الهروب، حتى في الإعلام والسياسة هناك قنابل دخانية هدفها أشمل، بمعنى أن مُلقيها يحاول جر المتابع للتركيز على الدخان المتصاعد، وتركه يعيش التفسيرات، بينما هو يقوم بما يريد تحت ستار هذه القنبلة الدخانية.
مُرِّرَ الاتفاق النووي بين إيران والغرب، معظم التحليلات بدأت بمجرد الإعلان عن الاتفاق، وتناسى الجميع أن هناك ما هو أهم من هذا الاتفاق؛ ما سيقوله المرشد الأعلى وقرار مجلس الأمن الذي سيتبناه، بالتالي بدت كل تلك التحليلات المتسرعة منصبةٌ في اتجاهين أساسيين:
هل الرابح هي الولايات المتحدة والخاسر إيران أم العكس؟ لا يمكن في مثل نوع كهذا من الاتفاقيات الحديث عن انتصار كامل أو خسارة كاملة، فاتفاق كهذا هو بالنهاية حل وسط يجمع مصالح جميع الأطراف المعنية. بمعنى آخر، كل من صور هذا الاتفاق كأنّه انتصار لإيران على الغرب هو مزايدة لا مبرر لها، وكل من رأى الاتفاق كخضوعٍ من إيران للغرب هو محاولةٌ للهروب بمصائبه نحو الأمام. الأجدر بنا القول إن الوحيد الذي انتصر بهذا الاتفاق هي فرضية أن الحروب ليست الحل النهائي لكل الأزمات، إلا في عرف المتطرفين فقط؛ دولاً كانوا أم تنظيمات.
لم يكد حبر الاتفاق يجف حتى حزم وزير الاقتصاد الألماني حقائبه مغادراً نحو إيران، ليتبعه «لوران فابيوس» في الأسبوع القادم، إنه زمن الاستفادة من الاستثمارات الإيرانية القادمة. لكن لابد من قنبلةٍ دخانيةٍ تغطي أهمية الحدث، كقول وزير الاقتصاد الألماني إن أحد شروط أي تعاون تجاري مع إيران هو الاعتراف بالكيان الصهيوني، هذه القنبلة الدخانية لا يشبهها إلا قنبلة وزير الدفاع الأميركي عندما تحدث من فلسطين المحتلة بأن الخيار العسكري لا يزال قائماً ضد إيران. هكذا يتم التكاذب إعلامياً ومن ثم يخلد هذا الوزير أو ذاك نحو ما يريد، لكن هل يعني هذا أن الأمور متجهةٌ نحو السلام الدائم بين إيران والغرب، ما ينعكس إيجاباً على المنطقة؟
ببساطةٍ واهمٌ من يفكر بذلك!
يوماً ما قلنا إن الرئيس الراحل حافظ الأسد عندما كان يتحدث عن الرجعية العربية كان يعي من يقصد. اليوم ليس لدى المواطن السوري أدنى شك أن تلك الرجعية التي تمكنت بطرقٍ ناعمةٍ «لم تكن متوافرة زمن الراحل حافظ الأسد»، من التغلغل في مفاصل سوريّة كثيرة؛ منها الاجتماعي ومنها الاقتصادي، كانت أحد أهم أسباب ما يجري حالياً. بذات الطريقة، على إيران أن تستعد لما هو أسوأ، بمعنى آخر أي انفتاح على الغرب هو سلاحٌ ذو حدين، فهل هذا ما أراد المرشد الأعلى قوله بعد توقيع الاتفاق؟!
قال الرجل كلاماً سنتذكره بعد عقودٍ تحديداً إذا ما بدأت الولايات المتحدة ومن معها محاولاتها الناعمة على طريقة 2009 لقلب النظام في إيران بعد التجهيز الإعلامي والتقني لذلك. وعليه، فإن التحذيرات التي أطلقها المرشد الأعلى بعد التوقيع على الاتفاق يمكننا فهمها كما يلي: إن الوقوف بوجه أميركا هو ما يقوي إيران من الداخل، وليس التحالف الإستراتيجي معها ـ كما يذهب بعيداً بعض المنافقين في حب إيران ـ تحديداً إن الولايات المتحدة لا يمكن لها أن تتعاطى مع دول المنطقة من منظور الحليف الإستراتيجي، وبالتالي قد يبدو الاتفاق في الإطار العام على المدى الطويل يهدف إلى ما يمكن تسميته تفجير إيران من الداخل. هذا الكلام نقوله بواقعيةٍ، بعيداً عن المجاملات التي لا تنفع، وهذا الأمر ربما أكده قرار مجلس الأمن الدولي الذي تبنى اتفاق فيينا والذي بدا غامضاً في الكثير من الفقرات، حتى إنه فيما يبدو خرج عما تم الاتفاق عليه في فيينا وحرفية النص المكتوب، ما استدعى الخارجية الإيرانية للتوضيح. أما مدى نجاح هذا المشروع فهو مرهونٌ بمدى التحصين الذي ستبنيه إيران في الداخل، وردم الهوة بين من يرى في الاتفاق انتعاشاً للاقتصاد الإيراني، وبين من يراه فخاً يستهدف ثوابت الثورة، فالمحيط لا يبشر بالخير تحديداً في العراق وأفغانستان. أما التركي فهو بحالةٍ لا يُحسد عليها، تحديداً إن تركيا أحد أكبر الخاسرين من هذا الاتفاق، فهل يتعظ الأتراك مما يجري ويحاولون التخلص من لعنة السوريين الذي تورطوا بدمائهم انطلاقاً من جو التصالح الإيراني مع الغرب؟
ضرب الإرهاب تركيا مجدداً، عندما وقعت التفجيرات الإرهابية في مشيخة الكويت ومملكة «آل سعود» قلنا يومها إن الحديث عن قيام هذه المشيخات بتفجير هذه الجوامع لإظهار أنفسهم كضحايا للإرهاب ليس منطقياً، لأن رمزية الأماكن المستهدفة لها ارتدادات لا يمكن لتلك المشيخات أن تتحملها.
في الحالة التركية يبدو الأمر معاكساً تماماً، بمعنى آخر فإن رمزية المكان ودقة اللحظة التاريخية التي تمر بها جميع الأطراف التركية تثبت أن العدالة والتنمية هو من يقف خلف هذا التفجير، فما البعد التحليلي لذلك؟
لا يمكن بأي حال اعتبار هذا التفجير نوعاً من الرسائل الأميركية لأردوغان بأن اللعبة في سورية انتهت، لأن الولايات المتحدة لا توجه رسائل إرهابية لغلمانها حتى تردعهم عما باتت تراه يضر بمصلحتها. أسابيع عصيبةٌ عاشها «رجب طيب أردوغان» وحزبه بعد خسارة الأغلبية البرلمانية، مروراً بفشلٍ متواصل في السيطرة على حلب، وعدم الاستثمار الناجح لسيطرة القاعدة على إدلب وجسر الشغور، ناهيك عن الضغط الداخلي المتصاعد الذي يتحدث عن إمكانية محاكمة بعض قادة العدالة والتنمية بتهمٍ مختلفة بعد خروجهم من السلطة. لم تنجح المساعي مطلقاً لجمع الأضداد في حكومة واحدة، ولا يبدو «أردوغان» كرئيس سيقبل بأن تكون الحكومة بالكامل من المعارضة، فما الحل؟
القشة الأخيرة التي يتعلق بها «أردوغان» الآن هي فرضية الانتخابات المبكرة، فبات أشبه بمن يقامر فيلعب «سولد»؛ إما أن يخسر كل شيء وإما أن يكسب كل شيء، وهنا يبدو هذه المكر الأردوغاني واقعياً، تحديداً إن هناك أصواتاً تتحدث من داخل الحزب أن هذه المقامرة فاشلة، فنتائج الانتخابات قد تكون أشد كارثية من السابقة.
هنا كان لابد للعدالة والتنمية أن يضرب تحت حزام خصمه اللدود والمجمع الانتخابي الذي تسبب بهزيمته عن طريق القول إن الفراغ سيولد المزيد من التطرف، تحديداً إن هذا المجمع الانتخابي ولسوء حظه مجاور لداعش.
أراد «رجب طيب أردوغان» أن يقول للأتراك «أنا أو التطرف»، تحديداً إن المعارضة التركية وإن بدت متحدة ضد «أردوغان»، لكن لا يبدو أنها كذلك في الخيارات والطموحات، هذا من دون أن نغفل ما نسجته استخبارات «أردوغان» من علاقات مع أمراء داعش، كان نتيجتها الإفراج عن الدبلوماسيين الأتراك الذين اختُطِفوا في الموصل، وكذلك الأمر نقل قبر «سليمان شاه» من دون أي منغصاتٍ داعشيةٍ.
لكن على الشعب التركي أن يعي أن انفجار الوضع في الجنوب الشرقي لا يعني دخول داعش فحسب، لأن هناك خطراً من جهة الجنوب الغربي المتمثل بـ«جبهة النصرة» التي هي فرع تنظيم القاعدة والمدعومة علناً من العدالة والتنمية، والتي قد تستفيد من المناخ المضطرب، فيصبح الجنوب التركي بالكامل بين مطرقة داعش وسندان النصرة، فهل انفجار الوضع في الجنوب التركي سيكون بمنزلة رفع عبء عن الشمال السوري، أم إنه سيعني انفجاراً كاملاً لا يعلم أحد كيف ستنتهي تشظياته؟!
في الشكل العام لا يبدو أن ما يُقلق «أردوغان» هو فقط إبلاغ القيادة السورية لدي مستورا عن إصرارها بأن الحرب على الإرهاب أولويةٌ بمعزلٍ عن أي تسوية سياسية، فهذا سياقٌ آخر، بل هناك قلقٌ آخر من تواصل غير مباشر لدولٍ «كارهةٍ للنظام السوري» مع القيادة السورية ومحاولة فتح قنوات اتصال مباشرة للوصول لحلٍ وسط في الحرب على الإرهاب، فعادوا لفكرة إعادة تعويم الإرهابيين ليكونوا «رجال سياسة» في أي حلٍ قادم.
منذ أيام ترافق إعلان زعيم حركة طالبان «الملا عمر» عن قبوله لتسويةٍ ومفاوضاتٍ مع الحكومة الأفغانية مع لقاءات عقدها دي مستورا مع عدد من قادة الجماعات الإرهابية في الجنوب السوري. الفكرة ذاتها؛ هناك من يريد أن يتحدث باسم هذه المجموعات الإرهابية بمن فيها تنظيم القاعدة ليقول إننا سنقبل بمحاورة النظام وفرض وجود إمعات كهذه في أي حل تسووي قادم، فهل ستقبل القيادة السورية بهذا الأمر من خلال مفاوضتهم بعد إلقاء السلاح، أم قبل إلقاء السلاح وبالصفات التي يحملونها؟ الجواب لن يكون بعيد المدى والعالم الذي تحول لقريةٍ صغيرةٍ في وسائل الاتصال سيصبح قريباً قريةً صغيرةً في الإرهاب، والتطرف لن ينفع معه اتفاق نووي ولا مهرجان «أجمل عنزة»، ما ينفع معه الميدان فقط، ومن لا يصدق فعليه أن ينظر جيداً لما قاله أوباما للرئيس النيجيري بأن أميركا ستساعد نيجيريا في الحرب على بوكو حرام «داعش إفريقيا». بالعادة، عندما يطلق أوباما مثل تصريحات كهذه فعلينا شد الأحزمة، لأنّ أسابيع قليلة ستفصلنا عن وصول «داعش» رسمياً إلى أرض الصومال لتلتقي بحليفتها اليمنية. كذلك الأمر علينا ألا نضيع الوقت بقراءة أسباب زيارة مشعل لمملكة «آل سعود»، بل علينا أن ننظر لأسباب تحذير الكيان الصهيوني بأن سقوط حماس سيعني سيطرة داعش. إنها «قنابل دخانية» بمفعول نووي لتعويم «داعش» كأنها الداء… والدواء..