دروس الثلث الثالث
| زياد حيدر
تعلمنا من الأزمات التي عصفت بنا وبالعالم، من دون إرادة المستضعفين، وعلى غفلة أحياناً، أن ثمة طريقين ناجعين وسريعين يمكن للجمهور والأفراد معاً أو على حدة اتباعهما.
الأول هو مع، والثاني هو ضد، بغض النظر عما يمثله هذا الـ «مع»، وما الذي يمثله الذي ضده، فبينهما كما هو طبيعي يقع طريق ثالث، يتمتع بصفاته الخاصة، فهو بطيء، مملوء بإشارات المرور والأضواء الحمراء والصفراء والخضراء، يعج بالتنبيهات والتحذيرات.
طريق ممل وغير منتج بالمقارنة مع الطريقين الآخرين، ولا يحقق نصراً مبهجاً، ولا غنى سريعاً، ولا يرسم طريقاً صاعداً، ولا تتردد على مسامعه سوى ألحان وكلمات الأغاني الحزينة.
لكن في هذا الطريق كنز يتم جمعه بكل خطوة، كنز لا يباع ولا يشترى. فأتباع هذا الطريق لا يتقنون التجارة ولاسيما تجارة القيم.
كنز يتم تجميعه إلى حين تصبح إمكانية تداوله ممكنة، فينقل من مالكه إلى وريثه أو مسامره أو العامة. هذا الكنز يتجمع بين متحاربين قد كانا شقيقين بالأمس أو لا، ولكن لا يراه سوى رواد الطريق الثالث، ولا يعرف قيمته غيرهم.
يتجمع من دون حرج الرمادية، فالقضية هنا ليست قضية وطن بقدر ما هي توصيف للوطن، كيف سيحكم وكيف سيعامله أياً كان اسم الحاكم. كنز يتمثل في الوسطية البعيدة عن كل تعصب، في كتالونيا الإسبانية (منذ ألف عام) والمقسومة بين من مع ومن ضد، بدرجة ثلث لكل جهة، تقريباً، يعيش الثلث الثالث متلفتاً حوله.
في سياسات الدول وفي أزماتها الحادة، يسعى دوماً شخص ما للقول إنه أسس حزباً للثلث الثالث، سيسمى عادة الطريق الثالث أو ما يشبهه. لكن الثلث الثالث الحقيقي لا يتبع لحزب سياسي، ويقنط السياسيين، فهم بنظره رجال طموح ومصالح، تنازل ومقايضة، التفاف ودوران.
وهذا الشيء ضروري التذكير به، على حين تبدأ الآن أزمة في أوروبا منطلقة من إسبانيا، قد تتفتح على أزمات أخرى في القارة وخارجها، من بين أسباب الأزمة المشاعر القومية بالطبع والأهم منها -دوماً- العامل الاقتصادي بشكل رئيسي.
بخصوص المشاعر القومية هنالك تاريخ من محاولات اجترار الانفصال، علما أن دولة كتالونيةً ولدت يوماً ما انتهت منذ أكثر من تسعة قرون بزواج ملكي ابتهج به السكان حينها وفق ظني، ضمها لإسبانيا الحالية.
وبخصوص الاقتصاد فإن الإقليم الثري يطالب بحصة مالية أكبر من إنتاجه الكبير المقتطع الذي يذهب للدولة المركزية لتعيد توزيعه على فقراء الأمة الأقل إنتاجاً.
لكن أبرز العوامل حقيقة، هي نخب السياسيين التي لا تحيا ولا تبرعم ولا تزهر مواهبها إلا عبر الأزمات، ولتكن كبرى.
يريد كثر منهم أن يكونوا على سجل التاريخ الذي يسجل من خطا الخطوة واحد ومن خطا الخطوة اثنان، حتى لو كان الأمر على حساب آخرين، ولو كان سيجلب دماراً وأسى، ولو كان مغامرة غير محسوبة ولا مدروسة كما يتبين لاحقاً دوماً.
وفي الواقع فإن تحت خطوات هؤلاء الباحثين عن مجدهم الخاص والعام، يقبع هؤلاء الذين يجدون أنفسهم بين نيران الخاسرين والرابحين.
هم ذاتهم الذين لم يخدعهم الاندفاع في البداية ولا النصر أو الخسارة في النهاية، فالأمر لهم سواء، دوماً نصف خاسرين ونصف رابحين.