القصة القصيرة جداً «ق ق ج» تزدهر في رحاب مواقع التواصل الاجتماعي … التجريب والمثاقفة والثقافة الغربية وراء ازدهار الفن القصصي
| أمية بيطار
لعلّ أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن القصة القصيرة جداً جملة من التساؤلات أهمها، هل هو جنس أدبي من صميم أدبنا العربي أم إنه دخل على أدبنا نتيجة الانفتاح على الثقافة الغربية؟ هل هو جنس فني له تراثه القديم في الأدب أم إنه فن مستحدث على الساحة الأدبية؟ تلك التساؤلات لا يمكن الإجابة عنها إلا إذا أوغلنا عميقاً في الجذور السردية العربية القديمة مروراً بمرحلة الانفتاح على الثقافة الغربية ووصولاً لبدايات القرن العشرين حتى يومنا هذا.
ولاستيعاب هذا الجنس ومكوناته الفنية والدلالية كان لا بد من تتبع مراحل تطوره بدءاً من المرحلة التراثية كالنادرة والأحجية والطرفة التي كانت تقترب من القصة القصيرة جداً.
كما هو الحال في كتاب (المستطرف في كل فن مستظرف) لشهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي والذي يعج بمجموعة من القصص القصيرة جداً التي تأخذ طابعاً تراثياً ورمزياً واجتماعياً. ومن ثم مرحلة الكتابة اللاواعية التي تتسم بالعفوية والتلقائية كما في بعض أعمال جبران في كتابيه (التائه) و(المجنون) على حين أن مرحلة الوعي بتجنيس القصة القصيرة جداً قد ولدت في العراق على غرار شعر التفعيلة، كالمجموعة القصصية للقاصة بثينة الناصري (حدوة الحصان) أما مرحلة التجريب والمثاقفة فكانت البداية الحقيقية للانفتاح على الثقافة الغربية حيث استعان كتّاب القصة القصيرة جداً بمبادئ ما بعد الحداثة كالتشظي والإكثار من نقاط الحذف وتسريع الزمن والميل للاختزال والرمز… الخ، فمرحلة التأصيل نراها بشكل جلي عند جمال الدين الخضيري الذي كتب مجموعة تراثية متميزة مراعياً فيها تأصيل القصة القصيرة جداً كتابةً وبناءً وقالباً وتشكيلاً ورؤية وكانت تحت عنوان (حدثني الأخرس بن صمام).
وعند انتشارها في الوطن العربي في تسعينيات القرن الماضي كانت سورية السباقة بإبداع هذا الجنس الأدبي إضافة إلى فلسطين، ومصر، والمغرب العربي حيث اهتم كتابها بإبداع هذا الشكل الأدبي إلى حد بدا كأنّه القصة الومضة التي تعتمد على التقاط الحدث الواحد بلحظة زمنية فارقة وسريعة، وفيها كل فنون القص من حدث وحبكة وإدهاش، وتصاعد سردي.
فما واقع القصة القصيرة جداً في سورية الآن؟ ومن روادها وأعلامها؟ وهل كان انتشار جنس أدبي كهذا نتيجة للظروف وتطور وسائل التواصل الاجتماعي التي تستوعب هذا الفن السردي بكفاءة عالية، أم نتيجة انشغال الإنسان المعاصر وضيق وقت الكاتب والقارئ، فالوقت هنا مجرد عامل ثانوي.
القصة القصيرة جداً في سورية
بين الماضي والحاضر
البداية الحقيقية للقصّة القصيرة جداً بشكلها الحالي بدأت في تسعينيات القرن الماضي، مع كوكبة من الكتّاب أمثال سعيد حوارنية الذي استطاع نقل الواقع مستخدماً النص والإيحاء مع ضبط السرد بما يلزم في أعماله مثل (سنتان وتحترق الغابة) و(وفي الناس المسرة) وقد كانت تجاربه، تجارب بشرية من خضم الحياة وضغوطها ولا ننسى الأديب والطبيب عبد السلام العجيلي في مجموعته القصصية (مجهولة على الطريق) التي ترنو في بعض ملامحها إلى خصائص الرواية، وهو نوع من التهجين الذي يحتمله الأدب بإجماع النقاد، إضافة إلى كتّاب كُثر أمثال محمد الحاج صالح، عزت السيد أحمد، عدنان محمد، جمانة طه وآخرين.
أما عن سبب ازدهاره وعودته بقوة بوصفه جنساً أدبياً رائداً في عصرنا يعود إلى ميل أغلبية القراء حالياً للجمل القصيرة والسرد المقتضب لما لهذا الجنس الأدبي من أهمية في نقل الواقع بجمل قليلة فيها الصدمة والدهشة، مفتوحة التأويل بحيث يمكن لكل قارئ رؤيتها من زاوية مختلفة، لأنّها تعتمد على الإسقاط والرمزية، الاختزال والتكثيف وسرعة الحدث، الإيحاء والإضمار وأخيراً القفلة غير المتوقعة التي تبقي باب التأويل مشرعاً على مصراعيه هذا ما بينته لنا القاصة والشاعرة السورية منال رشيد أبو حلقة.
قارئ اليوم على عجلة
القارئ لم يعد موجوداً اليوم للأسف، بسبب الظروف الراهنة فلا طاقة للأغلبية على تقبل السرد الطويل، تبعا لتبدل المناخ المعيش من أمان إلى ساحة حرب، لذلك نجد أن السرعة في كل شيء باتت لها أهميتها الكبرى وهي الحال نفسها بالنسبة للقص. فكان لا بد من جنس أدبي يتصدر مهمة نقل الحدث وتوثيقه بطريقة معينة، ونجده في أغلب القصص القصيرة جداً الحالية التي تصور ثيمة معينة عن الأمور الحياتية في المجتمع الحب، الحرب والحياة وإسقاط الضوء عليها وضغطها من خلال القص المقتضب والرمزية، الأمر الذي يجعلها تتناسب مع عنصر السرعة، ولاسيما حسب طبعتها كرموز مشتركة بين القاص والقارئ.
ونظراً إلى اعتماد هذا السرد الأدبي على الاختصار والتكثيف والعبارات الرشيقة فقد وجد ضالته في وسائل التواصل الاجتماعي كأوعية الكترونية لتنقل رموزه وومضاته لأكبر عدد مكن فاسحة المجال للتـأمل والتفكير.
فقد اشتعلت منتديات وصفحات التواصل الاجتماعي بهذا النوع الأدبي، مثل رابطة القصة القصيرة جداً في سورية، التي يترأسها الدكتور محمد ياسين صبيح، والتي أولت اهتماماً كبيراً لهذا الجنس الأدبي ونظمت المسابقات والمنتديات كما اهتمت بالنقد الأدبي للارتقاء بـ«ق. ق. ج».
القصة القصيرة جداً فن أدبي متفرد
كثيراً ما يحدث لغط بالأوساط الثقافية بين هذا الجنس الأدبي وبين أجناس أخرى مشابهة له كالقصة الومضة، فقد بيّن لنا القاص ساجد المسلماني أهم الفروق الجوهرية بين هذين الفنين الأدبيين، القصة الومضة ولدت برحم القصة القصيرة جداً، فكلتاهما تلتقيان من حيث التكثيف والإيحاء، على حين القصة الومضة تتناول الصور الحياتية الجزئية بينما تتخذ القصة القصيرة جداً بعداً كلياً كفعل فلسفي، أما القصة الومضة من حيث البنية فهي أقرب إلى أسلوب القصيدة الحديثة وخاصة قصيدة النثر في إشارتها وتقاطيعها الإيحائية.
قصص قصيرة جداً لكتّاب سوريين
صحيفة «الوطن» تواصلت مع القاصة والشاعرة منال رشيد أبو حلقة التي حدثتنا عن تجربتها بـ«ق ق ج»، تقول: أكثر ما أثار إعجابي بهذا الجنس الأدبي القفلة، حيث إنها تصدم القارئ أحياناً وأحياناً أخرى تدهشه، فهي تجسيد حياة كاملة بجملتين أو ثلاث من خلال السرد السريع والمقتضب والسخرية من الواقع بأسلوب رفيع المستوى، لهذا توجهت إلى هذا النوع الأدبي من خلال تجارب بشرية صادفتها، فكانت أعمالي نقلاً للحدث من دون مواربة، أميل للكتابة بلغة سهلة لتصل لأكبر شرائح المجتمع، ليتمكن القارئ البسيط من تقليب أبعادها من خلال الثيمة والرمزية والإيحاء.
فعن مجموعتي (ضوء في العتمة)، اعتمدت فيها على الإيحاء بنقل بعض أمراض المجتمع وإلقاء الضوء عليها بأسلوب ساخر.
أما في (خفايا) فهذه المجموعة القصصية تمثل حياة شريحة من المجتمع جمعتني بهم المصادفة فنقلت تجاربهم وحياتهم الخاصة جداً، لذا تلك المجموعة القصصية هي بمنزلة المرآة التي تحدثها عن أشياء لا تجرؤ على البوح بها لأي كان.
إضافة إلى مجموعتي القصصية (قطرة) التي تتحدث عن المعاناة، الفقد، التمرد، الحب، الازدواجية وباقي أمراض المجتمع لذا أعتبرها ثلاثياً ساخراً وناقداً معاً.
تواصلنا مع الدكتور كاتب القصة القصيرة جداً سعيد أحمد وهو أحد الكتّاب النشطين على صفحات التواصل الاجتماعي وحائز جوائز عديدة في مسابقات «ق ق ج» على مستوى الوطن العربي وجوائز من رابطة القصة القصيرة جداً في سورية إضافة إلى مشاركته بملتقيات الرابطة في دار الأوبرا في شهري آذار ونيسان من هذا العام فقد زودنا بمجموعة كبيرة من قصصه القصيرة جداً عن الحرب والحياة، لا مجال لذكرها جميعاً ونكتفي بقصة «تسول» لما تحمله من قيمة غرائبية: (تائهة بين العائدين تفتشين عنه… يلمحها أخيراً. يصفر القطار…. تضم صورته باكية… يسأل الراحلين جسدا ليكمل العناق…!) فالتسول هنا طيف يتسول من الناس جسدا ليعانقها (عندما تتسول جسدا) يقول القاص هنا استخدمت الأسلوب الغرائبي لأن الغرائبية هي تعطي «ق ق ج أو أي جنس أدبي آخر دهشة رائعة.
فحسب رؤية الدكتور سعيد أنه في أي نص يجب تحريك الثابت، وإبعاد القريب وتقريب البعيد فهناك أشياء نراها ولا نشعر بوجودها حتى إننا لا نلاحظها، هنا يأتي دور كاتب «ق ق ج» بإعادتها لساحة الانتباه بدهشة غير متوقعة «تلك صناعة الدهشة».
لقطة سينمائية سريعة
ومن خلال استطلاع رأي المثقفين والمهتمين بهذا السرد على صفحات التواصل الاجتماعي فقد عبرت الأغلبية العظمى بأن «ق ق ج» سرد المستقبل لما يتمتع به من دهشة وتكثيف للفكرة إضافة إلى وجود المصادفة في النهاية فهو أشبه بالفن السنيمائي ويتناسب مع أدوات العصر التي أتاحت لهم منبراً لنشر تجاربهم الأشبه بلقطات وومضات سينمائية سريعة.
القصة القصيرة جداً تخدع كاتبها
يتحدث الدكتور حسن المناصرة في كتابه «القصة القصيرة جداً رؤى وجماليات» عن دلالات عناوين القصص القصيرة جداً فهي تحمل دلالات عميقة عند التأمل فيها من جهة الإيحاءات الواسعة التي تفضي إليها هذه الكلمات في مستوى علاقتها بالثقافة والوعي المتشكلين داخل المتلقي، الذي لابد أن ينظر إلى هذه العناوين في دلالاتها الحقيقية والواقعية.
أما عن كتابة القصة القصيرة فهي تخدع كتابها لأنها ظاهرياً أي تحتاج إلى الكثير من العناء والتأهب والاشتغال على الذات، لذلك يجب علينا وضع كثير من العوائق والمتطلبات أمام مغامرة الكتابة في هذا المجال، فهي ذات مضمون نفسي عميق يحول تلك العلاقات المعقدة إلى كلمات رمزية تحمل أكبر بكثير من حجم الكلمات الموجود في المضمون حيث لا إسهاب فيها، كما أنها مضغوطة، موجزة بقالب يتمتع بجمالية اللغة كالتناص العميق والنزعة البلاغيّة ضد أي فوضى لغوية وإلّا فستتحول إلى ممارسة فجّة أو سطحية.
فعند محاولة تقديم رؤى نقدية لهذا الجنس الأدبي في ضوء القصة القصيرة جداً نجد أنه ما زال في بديات التنظير الفني والجمالي، والحديث عنه ما زال يدور حوله التحفظات والمحاذير.