استفاقة تركية متأخرة
| عبد المنعم علي عسى
عندما تحين ساعة الحلول، يصبح لزاماً على الجميع قولبة أنفسهم أو أدوارهم، بما جاءت به أطر التسويات الكبرى، وتلك حالة تفرض أو تستدعي انقلاباً في تموضع العديد من القوى ليصبح عدوّ الأمس صديقاً أو الصديق عدواً.
أخيراً استفاقت أنقرة لتبني قناعاتها على أن المستهدف الأول فيما يجري في المنطقة هو تركيا، وما محاولات اللعب بالجغرافيا السورية والعراقية إلا مقدمة لتكرار اللعبة في الجغرافيا التركية، ومن المؤكد أن تشظي الأولين سوف يؤدي بالضرورة، طال الزمن أم قصر، إلى تفجير الأخيرة.
في تصريحات له نشرت مطلع الشهر الجاري، قال نائب رئيس الوزراء التركي هاكان جاويش أوغلو: «إن بعض الجهات تحاول إعادة رسم حدود المنطقة»، وأضاف: «إن أنقرة ترى أن أحداث تقسيم الجغرافيا التركية، موجودة في الأحداث السورية والعراقية على حد سواء».
تأخرت الرؤية التركية حتى نضجت، ولو عاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى توصيات أستاذه الإستراتيجي الذي انشق عنه من أجل السلطة، لوفر على نفسه الكثير، فقد كان رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان (1996- 1997) يقول: «عندما يتركز اهتمام العالم على سورية والعراق فاعلم أن المستهدف هو تركيا»، ولقد بات واضحاً أن هناك «خارجاً» دولياً أراد استخدام أنقرة لتمزيق وشرذمة المنطقة، إلا أن المشروع لا يتوقف بل يتابع في تمزيقه وشرذمته ليصل إلى الأداة الإقليمية التي سبق استخدامها في بدايات المشروع.
أضحت العلاقة الأميركية التركية ما بعد انتهاء الحرب الباردة عام 1989 تندرج تحت عنوان «غرام الأفاعي»، ولربما كانت اللدغة الأولى قد تأكدت إبان غزو العراق عام 2003 عندما انتظرت قطع الأسطول البحري الأميركية أياماً عديدة في آذار 2003 لكي تأتيها شارة الموافقة السياسية لدخول ميناء مرسين، وبعد انتظار أصدر البرلمان التركي قراره بالرفض، وفي حينها اتهم البنتاغون الحكومة التركية بأنها لم تعمل كما يجب لاستصدار قرار إيجابي.
صحيح أن المصالح الاقتصادية بين أنقرة وواشنطن كانت متضاربة في العراق عشية غزوه، إلا أن الأتراك كانوا قد أدركوا مبكراً أن ثمة شيئاً آخر هو غير الاقتصاد يقف مستتراً في خلفية المشهد، ولم يكن من الصعب تلمس امتدادات ذلك الشيء الذي هو غير الاقتصاد والتي ظهرت جلية عشية تفضيل واشنطن التحالف مع ميليشيا مسلحة هي مصنفة أصلاً على لوائح الإرهاب التركية، أي حزب العمال الكردستاني، على التحالف مع جيش «ناتووي» كان حتى الأمس القريب، يمثل القوة الضاربة الأولى في الحلف بعد القوة الأميركية، جرى ذلك في أعقاب إعلان واشنطن عن تأسيس التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب وداعش في عام 2014.
ما سبق، إضافة إلى معطيات أخرى من مثل «الرخاوة» التي أظهرتها القبضة الأميركية في مكاسرتها مع نظيرتها الروسية التي جاءت مؤخراً بتفويض أميركي لموسكو، بدا ناجماً عن أمرين اثنين الأول: هو أن واشنطن كانت تأمل من وراء ذلك التفويض احتواء الدور الروسي تمهيداً لإبعاد موسكو عن بكين وطهران، ولربما كان المعطى الذي ستلمسه واشنطن في هذا السياق أساسياً في إمكان ذهاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إلغاء الاتفاق النووي الإيراني منتصف تشرين الثاني المقبل كما تقول تقارير. والثاني: هو أن واشنطن ترى أن كلاً من بغداد والقاهرة هما بدرجة أهم لها من دمشق، وإذا ما كانت التهديدات تعصف بذلك الثالوث كله، وهو الأمر الحاصل راهناً، فإن الخيار الأميركي سيكون في دعم الأولين (القاهرة وبغداد) وترك الأخيرة (دمشق) لموسكو، التي ستقوم بدعمها على أكمل وجه، إلا أن ذلك لا يمنع من احتفاظ الأميركيين بخنجر كردي في الشرق والشمال الشرقي السوري، للتنغيص على أنقرة كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
المواقف السابقة دفعت بأنقرة نحو حالة تقارب مع روسيا، بدا وكأن واشنطن لا تعيرها اهتماماً حتى عندما بلغت تلك الحالة حدود شراء صواريخ «إس إس 400» الروسية، إلا أن ذلك بالتأكيد لا يعبر عما يحتويه العمق الأميركي فيما يخص تلك الحالة، حتى إذا ما رسخت الرؤية التركية سابقة الذكر في بداية هذا المقال، تقرر تركياً الانخراط في تحالف روسي إيراني بدا منذ حين وكأنه يملك مقومات الصلابة والاستمرار، ولقد كان هذا الأخير كفيلاً بالإطاحة بجميع الأدوار الأخرى التي كانت تمارسها السعودية أو الإمارات أو قطر، إلا إذا ما قبلت هذي الأخيرة أن تلعب دور التابع عبر تعليقها بإحدى ركائز ذلك الثالوث، وفي هذا السياق كانت زيارة العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى موسكو في الخامس من الشهر الجاري والتي هدفت بالدرجة الأولى إلى عودة سعودية مفترضة إلى المشهد السوري، بالإضافة طبعاً إلى أهداف أخرى تتعلق بالعلاقة مع إيران والأزمة اليمنية، ولم ينس العاهل السعودي «رش» دولاراته على الطاولة الروسية، وإن كان ذلك بصيغة عقود شراء بلغت أحدها، وهي صفقة صواريخ «إس إس 400» حوالي 110 مليارات دولار، ومن المؤكد أن الرياض لم تذهب نحو ما ذهبت إليه، إلا بضوء أخضر أميركي بل وناصع الخضرة، ولذا فإن السؤال الأبرز هنا: ما الذي يدفع بواشنطن نحو إعطاء ضوء أخضر للرياض لكي تخترق أحد المحرمين الأميركيين المتمثل بمشتريات الأسلحة، والمحرم الآخر هو أسعار النفط؟
على الرغم من أن أغلبية التقارير الغربية والعربية كانت قد تحدثت عن تغيير سعودي جذري فيما يخص الأزمة السورية، وهو يضم بين جنباته القبول ببقاء الرئيس بشار الأسد في سدة السلطة في دمشق، على الرغم من ذلك، إلا أن الراجح هو أن زيارة الملك السعودي كانت فرصة جديدة لمحاولة انتزاع موافقة روسية أو القبول بتنحي الرئيس الأسد عن السلطة انطلاقاً من أن حدثاً من هذا النوع يمكن أن يكون بقعة مضيئة في السماء السعودية العكرة حالياً بسواد قاتم، وقد ازدادت قتامته مؤخراً عبر قرار الأمم المتحدة بوضع المملكة السعودية على اللائحة السوداء في السابع من الشهر الجاري لارتكابها جرائم حرب في اليمن.
ستمضي موسكو في مسارها لإنضاج تسوية سياسية للأزمة السورية وفي ظل استحالة الوصول إلى توافق «ما» بين المعارضة السورية والسلطة، ويبدو أن الخيار الأرجح المتاح أمامها هو استحضار حل جاهز خارجي يبقي الرئيس الأسد.
ما بعد الحل السوري يتبقى خلافان كبيران معوّقان لحدوث توافق روسي أميركي عالمي: الأول هو الأزمة الأوكرانية، والثاني أزمة الدرع الصاروخية، ولربما أرادت موسكو مع انقشاع الضباب السوري الدفع نحو تحريك الوضع الداخلي الأوكراني بما يخدم الأهداف التي تضعها موسكو في هذا السياق، ففي الثالث من الجاري نقلت وكالات أنباء خبراً يقول: إن مدينة فينتيسا الأوكرانية قد شهدت تفجير 180 ألف طن من الأسلحة، ولربما كان ذاك الفعل ببصمة روسية انطلاقاً من أن شح الأسلحة سوف يدفع بكييف نحو الذهاب إلى موسكو طائعة تائبة، فعقيدة الجيش الأوكراني وتسليحه روسيان ما يعني أن الاندفاع سيكون نحو الكرملين، وإن كان الخيار النقيض هو خيار قائم سواء أكان لجهة القائم بالفعل أم الخيارات التي يمكن أن يؤدي إليها.