حرب التأشيرات بين أنقرة وواشنطن!
| بسام أبو عبد الله
فجأة اشتعلت معركة دبلوماسية بين أنقرة وواشنطن، عنوانها وقف منح التأشيرات للمواطنين الأتراك، واتخذ هذا القرار بتاريخ 8 تشرين أول الجاري، وهو يوم عطلة رسمي في أميركا، وبالطبع ردت أنقرة مباشرة وبنفس الطريقة، فأوقفت منح المواطنين الأميركيين تأشيرات الدخول إلى تركيا.
الأوساط الإعلامية التركية رأت أن واشنطن لم تتخذ مثل هذا الإجراء القاسي حتى في أسوأ أزمة بين البلدين إبان احتلال تركيا لشمال قبرص عام 1974، إذ فرضت آنذاك واشنطن حظراً على تصدير السلاح لتركيا، فردت حكومة سليمان ديميريل بفرض حظر على استخدام الأميركيين لقاعدة إنجيرليك جنوب تركيا عام 1975، والظاهر في القضية أن واشنطن اتخذت هذا الإجراء رداً على قيام السلطات التركية باعتقال موظف محلي تركي يعمل في القنصلية الأميركية في إستانبول بتاريخ 5 الجاري اسمه متين توبوز، وحسب ما نشر في وسائل الإعلام التركية فإن توبوز هذا متورط في إجراء اتصالات هاتفية مع النائب العام التركي السابق زكريا أوز اللاجئ في ألمانيا، وأوز هو رجل المعارض فتح اللـه غولين داخل القضاء التركي، وهرب من تركيا إثر فشل محاولة الانقلاب بتاريخ 15 تموز 2016 كما اكتشف المحققون الأتراك أن توبوز كان لديه عدة اتصالات هاتفية مع العسكريين المتورطين في محاولة الانقلاب.
وحسب المعلومات فإن وزارة الخارجية التركية استدعت بتاريخ 9 الجاري نائب رئيس البعثة الدبلوماسية الأميركية في أنقرة لبيان أسباب القرار الأميركي، وإثر هذا الاستدعاء، وفور انتهاء الاجتماع قامت السلطات التركية باعتقال موظف محلي تركي آخر يعمل في القنصلية الأميركية في اسطنبول مع زوجته وابنه في محافظة آماسيا، واتهم بأنه كان صلة الوصل بين القنصلية الأميركية، ومديرية الأمن العام التركية، وهو ما يؤشر حسب المصادر التركية، إلى تورط أميركي واضح ومستمر في دعم حركة فتح اللـه غولين، وخدمة الجماعة داخل تركيا، وتجنيد أناس ضد مصالح بلدهم!
يبدو أن هذه القضية التي كان بالإمكان معالجتها، خلف الأبواب المغلقة بين واشنطن وأنقرة، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، وأظهرت التوتر والتناقضات في العلاقات بين البلدين، التي بدأت تظهر وتتوسع تدريجياً بدءاً من عام 2015، مع كشف ملفات الفساد داخل حكومة رجب طيب أردوغان من قبل جماعة غولين داخل القضاء التركي، واضطرار أربعة وزراء في حكومته للاستقالة آنذاك على خلفية القضية، وبدء الصدام الداخلي الذي تطور بين أردوغان وغولين لينفجر أخيراً في محاولة الانقلاب في 15 تموز 2016.
من ذلك التاريخ بدأ أردوغان حملة تصفية الجماعة داخل بنية مؤسسات الدولة التركية، وكذلك ضرب المؤسسات الاقتصادية والمالية والتربوية والإعلامية، للجماعة وتصنيفها جماعة إرهابية، وملاحقة كل من له علاقة بها داخل تركيا وخارجها.
آنذاك اتضح لأردوغان أن المطلوب تصفيته للإتيان بجماعة غولين المستعدين لإنجاز مشروع التقسيم بدءاً من شمال العراق، إلى شمال سورية، وقد ثبت أن غولين هو الابن المدلل لواشنطن، وأن كل خدمات أردوغان التي أسداها لمشروع الشرق الأوسط الكبير في المنطقة، لم تشفع له لدى ما كان يسميهم الأصدقاء والحلفاء.
بالرغم من مطالبات أردوغان لواشنطن بتسليم غولين، إلا أن صراخه لم يسمع في أميركا، ولم ترد على ملفاته التي أرسلها باتهام غولين بمحاولة الانقلاب، وطالبته باتخاذ الطريق القضائي في هذا الشأن.
إضافة لكل ذلك، أي قناعة أردوغان بتورط واشنطن وحلفائه السابقين في العدوان على سورية بمحاولة الانقلاب عليه، فإنه تلقى إشارات أخرى منها التحقيق الذي يجري مع رجل الأعمال الإيراني الأصل التركي الجنسية رضا زراب في الولايات المتحدة، والذي يُتهم بأنه كان وراء عمليات الفساد مع وزراء أردوغان، وخرق نظام العقوبات ضد إيران بالتواطؤ مع الحكومة التركية، حيث وجه الادعاء العام الأميركي الاتهام لوزير الاقتصاد التركي السابق، وعلاوة على ذلك فقد تم أيضاً توجيه الاتهام لثلاثة من مرافقي أردوغان اعتدوا على متظاهرين معارضين له أثناء زيارته للولايات المتحدة، وطالبت واشنطن بتسليمهم للمحاكمة.
إذا تابعنا أيضاً قيام وكالة أنباء الأناضول الرسمية قبل فترة بنشر خرائط تظهر أماكن توزع القواعد العسكرية الأميركية في شمال سورية، وهو أمر انتقدته بشدة وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، فإننا ندرك أن حجم الهوة، والاختلاف كبير بين العاصمتين، وخاصة فيما يتعلق بالدعم الأميركي المباشر بالسلاح للمليشيات الكردية في شمال سورية، وتأكيد واشنطن أن هذه المليشيات هي القوة التي تعتمد عليها وليس تركيا، الأمر الذي كشف بوضوح شديد أن المرحلة القادمة من المشروع هي استهداف تركيا، التي وضعت على طاولة التقسيم، بعد أن استخدمت ضد سورية والعراق لتقسيمهما، وإشعال نار الحرب المذهبية في المنطقة، معتقدة أنها ستنجو من الحرائق التي ساهمت بإشعالها وأنها تتمتع بحصانة لدى واشنطن التي لن تسمح بتقسيمها حسب وعود قدمت لأردوغان.
إن التقارب التركي مع روسيا وإيران للتعاون من أجل إعادة الأمن والاستقرار إلى سورية والعراق، ومنع قيام كردستان الكبرى كما هو مخطط لها، واندفاع تركيا نحو تطبيق تفاهمات «أستانا6» في إدلب، أزعج الأميركيين كثيراً، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن دمشق أبدت الاستعداد للجلوس إلى الطاولة مع أنقرة إذا قطعت صلاتها بالإرهاب، وأثبتت حسن نواياها في إدلب، وهو أمر ترى فيه واشنطن انقلاباً كبيراً في الموقف التركي، وتحولاً سيكون له تأثيره على الخارطة في سورية والعراق والإقليم.
القلق التركي بدا واضحاً جداً من كتابات المقربين للحكومة التركية إذ كتب أحدهم: إذا لم نتدخل لوقف قيام الكوريدور الكردي، فإننا سنرى خلال سنة قواعد عسكرية إسرائيلية، وقواعد صاروخية، وأنظمة دفاع جوي على حدودنا، وعلينا أن نختار بين القتال داخل حدودنا، أو على الطرف الآخر من الحدود!
الأوساط التجارية والاقتصادية التركية، قلقة جداً من تصاعد التوتر مع واشنطن، وتضغط باتجاه عدم التصعيد، وإيجاد مخارج دبلوماسية للأزمة لأن التوتر الحالي قد يدفع واشنطن نحو اتخاذ إجراءات ستنعكس سلباً على الاقتصاد التركي، وسعر صرف الليرة التركية.
أحد الصحفيين الأتراك ذكر أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قال قبل أسبوعين وبالضبط خلال اجتماعه مع أردوغان: «إن أميركا وتركيا لم تكونا أقرب إلى بعضهما البعض كما الآن!» ولكن أحدهم علق في تويتر على كلام ترامب بالقول: «يجب أن تكون ترامب كي تقول مثل هذا الكلام!»، وهو تعبير عن أن ترامب يصرح في واد، والدولة العميقة الأميركية تنفذ ما هو مطلوب في واد آخر، فالمشكلة معرفة من يقود أميركا، وموسكو أول من راهن على قدرات ترامب في أكثر من مفصل، واكتشفوا أن الجنرالات هم من يحكمون في أميركا وليس ترامب.
مشكلة الأتراك: أنهم يريدون أخذ مواقف تتعلق بوجودهم وبقائهم، دون أن يدفعوا الثمن المطلوب، ومن حسن حظهم، وتاريخ المنطقة أن القادة في المحور الآخر يتمتعون بالحكمة والمسؤولية التاريخية، ولا تديرهم ثقافة القرضاوي ومنتجات ومزابل البترودولار.