عن القوة وسرّ القوة
| إسماعيل مروة
لا يقل البحث عن القوة وسرها عن الوجود وسره، بل إن كثيراً من القراء، وأنا منهم يثمّن القوة ويضعها في مراتب عليا، فالقوة قد تصل في أحايين كثيرة إلى مرتبة الناموس المتحكم بالعالم والكون، وما تشاؤه القوة هو الذي يمكن أن يحدث، ومن أصغر خلية في جسم إنسان إلى أكبر قضية في الكون، القوة هي التي تتحكم بكل شيء، وما يتبقى يتبع لها، ويدور في فلكها! ولا مغالاة إن قلت: إن الفكر السلطوي في الحياة بني على مبدأ القوة، ووجد مسوغاته من خلال القوة، واستعان لذلك بالمؤسسات الدينية في كل عصر في إيجاد النظريات التي تسوّغ له ما يريده ضمن أطر عديدة، إذ لا يكفي مظهر القوة ليعطي الهيمنة ويمارسها إلا إذا تمكنت القوة من ضمان وجود مشرّع ومؤدلج لها.. وتسلسل القوة الظاهرية هو جوهر النظرية التسويغية التي بنيت عليها العقائد، ولننظر إلى خطر هذه النظرية التي تجعل المجتمع بتمامه ناقماً وغير قادر على الانسجام في حياته، فالأطفال والشباب ليسوا مهمة مجتمعية، بل هم مؤسسة أسرية، ما يجعل هذه الطاقات على تمرد ورفض، ومن ثم تبعية للمؤسسة الناظمة، ما يفقدها قدراتها وطاقاتها التي تجعلها وقود معرفة وفلسفة وعلم.. بينما الرؤية الاستقلالية تتيح لهم مقداراً من الإبداع، وخاصة إن كانت المهمة المجتمعية هي التي تفعل فعلها، وتخطط لعمل وإبداع الفئة الشابة.. ومن ثم يصح الانتقال إلى الموضوع الإشكالي الأكبر في أي مجتمع من المجتمعات غربية وشرقية، وهو موضوع المرأة والرجل، فقد أعطت القوة المجتمعية لا البدنية للرجل حرية التحكم بحياة الأسرة والمرأة ضمناً، علماً بأن الرجل قد لا يملك مؤهلات القوة الحقيقية في جسده، ولا يملك الملاءة الاقتصادية التي تجعله في قمة هرم الأسرة، ولكن المؤسسة الدينية جعلت المرأة تابعاً بصورة فكرية أو جسدية أو مالية، ففي بعض الشرائع ينظر إلى اللقاء الجسدي بين المرأة والرجل كطريقة للإنجاب وحده دون النظر ما يمكن أن تحمل هذه العلاقة من إبداع وروعة يتعذر الوصول إليها ضمن هذه الرؤية، بل إن العلاقة بينهما تتحول إلى مؤسسة مترهلة لا يعبأ أحدهما بالآخر بعد أن أنجز عملية الإنجاب ومتابعة السيرورة..! ولأن الرجل يتظاهر بالقوة فإنه يمارس حياته وحده وقد لا يكلف خاطره بالنظر إلى الأضعف كما أعطاه المجتمع.. وفي بعض الشرائع نسمع كلاماً عجباً من باب الإنصاف كما يبدو في الظاهر، فالرجل هو الحاوي والمسيطر، وهو صاحب الواجب، وهو المطلوب منه أن يصرف على امرأته، وخصت المرأة بالنص، بغض النظر عن غناها، فمهما كانت غنية لا يطلب منها أن تقدم شيئاً، وعلى الرجل أن يتولى مهمة الصرف عليها ولو كان معدماً! فالمرأة بين أن يتكون وعاء وآلة للإنجاب فقط، وبين أن تكون محتفظة بما لها لنفسها، وتأخذ مصروفها من رجلها تبقى المرأة تابعة للرجل القوي مجتمعياً، وبعض الذين يرون أن تولي أمر الرجل للمرأة وحاجاتها نوع من إنصافها، يجب النظر حقيقة إلى تحويل المرأة إلى عنصر اتكالي يكتنز ما عنده، وهو في المحصلة سيعطيه لأسرته ليبقى تابعاً للرجل، وفي هذه الرؤية الكثير من الظلم، فالرجل هو الذي يعطي، وهو الذي يعمل، وهو الذي يغيب، وهو وهو مهما كانت المرأة قادرة..! أليست رؤية جعلت الرجل هو القوة التي تهيمن على المجتمع وتؤدي إلى سلبة مقومات نجاحه ورفعته؟ وفي هذا السياق يمكن أن نفهم فلسفة الإنسان المقهور التي فصّلها المفكرون والفلاسفة وقد وقف عندها الدكتور مصطفى حجازي في رسالة أكاديمية حين فسّر الظلم الاجتماعي، فالمرأة يظلمها زوجها فتصب جزءاً على أطفالها، والأطفال يصبون ظلمهم على زملائهم ومجتمعهم، والرجل الذي يظلم امرأته يظلمه عمله أو مديره، والمدير يظلم مرؤوسيه، وذلك رد فعل على ظلم وقع عليه من رؤسائه، وهكذا تتوالى منظومة القهر والظلم في المجتمع، وكل ذلك يبنى على مبدأ القوة، وسرّها هذا يجعلها قادرة على التحكم في المجتمع، والرجل الواقع تحت فيروس المسؤولية يشكو من المتاعب، يرفض أن يتخلى عن متابعته، لكنه لا يقف عند حدٍّ من الشكوى والتأفف، وشيئاً فشيئاً تضيع القوة، وتبقى مؤسسة منهارة، بينما الشراكة الحقيقية القائمة على رضا الطرفين يمكن أن تحقق الكثير من الاستقرار، إضافة إلى محاولة صادقة في أن يبحث كل واحد عن الاستقلالية، وهذه الاستقلالية ستجعل المجتمع بجملته في مكانة القوة التي يصعب أن ينال منها أحد من منظومة المجتمع، وهذا البنيان ليس منفصلاً، بل غاية المستفيدين تتمثل في إضعاف البنية المجتمعية بشكل كبير ليسهل عليهم أن يسيطروا ويهيمنوا على التكتلات والأفراد، وكلما كان المجتمع اتكالياً وغير مستقل سهل العمل على قيادته والسيطرة عليه.. وللحفاظ على قوة الذكورة نال المرأة ظلم كبير، والطريف أن المنظومة المجتمعية عملت على إقناع المرأة بواقعها، بل في كثير من الأحيان نجد امرأة مثقفة وعاملة وقادرة على أن تكون قوية هي التي تقر بضعفها، وليست ضعيفة، وترتضي التبعية، وهي تدرك هشاشة من أسلمته قيادها، فهي التي تجعل نفسها تابعة ولا تقدم أي خطوة لتصبح نداً، فما بالنا عندما تكون المرأة غير مالكة لهذه المقومات؟ الخطورة كبيرة، فأي بحث عن المساواة بين المرأة والرجل لا يقوم بالقوامة، ولا بالعصمة، ولا بأي شيء من الصرف والحياة، ولا يقوم بحصة تحددها الدولة للمرأة بأن تأخذها في مواقع المسؤولية، فكلها جوانب سرعان ما تتلاشى في تغير الظروف والأحوال، وتتحول على المجتمع وضده، وتصبح عناصر ضعف من الصعب تلافيها بسرعة، فمن الصعب إقناع الرجل ولو كان متلاشياً بأنه لم يعد كذلك قوياً، ومن الصعب إقناع المرأة التي صارت ضد المرأة، وضد ذاتها، بل تحولت إلى عدو لكل مسام من مسامها بأن تمارس دورها، إلا إذا وجدت ذات لحظة نفسها وحيدة وأمامها أسرتها، ويقولون فقدت معيلها تحت ظرف من الظرف، عندها ستنهار كتلة من لحمة لا قيمة لها، وهي التي كانت قادرة على الفعل.. الكلام ليس تنظيراً أو فلسفة، بل هو قراءة لما أحدثته وأفرزته الأزمة السورية، فالحرب على سورية التي استمرت هذه السنوات استطاعت أن تستخرج مواضع التعفن في نظرية القوة، والدولة أو السلطة هي التي تتحمل عبء ما حدث، لأنها أخطأت في صنع النسيج الاجتماعي القائم، على الاستقلالية من خلال قوانين تسنها في الحياة والعمل، وهي التي ستتحمل عبء المرحلة القادمة في إعادة الصحة إلى البنية التي تفككت وتهلهلت، ووصل تأثيرها إلى البيئات التي كانت بمنأى عن الحرب وإدعاء الحصانة ذهب أدراج الرياح.
الدولة قوة، والسلطة قوة، وما أدراك بالقوة وسر القوة، فالله يزع بالسلطان ما لا يفعل بالقرآن، كذلك قال العرب، وهم يقدرون قيمة السلطة والسلطان في الفعل، ليس لأنه سلطان، بل لأنه القوة، بينما النص المقدس مدارسة وقراءة وتدبر وفعل، وهذه المراحل عديدة وتحتاج جهداً، بينما السلطان قوة، وقراراته الصائبة التي تأتي في وقتها المناسب تجعل المجتمع محكوماً بالقوة، وهنا يتبادر إلى الذهن التساؤل عن سر ضعف المجتمعات وهي المكللة بالدول! ما يجري اليوم على الأرض العربية وغير العربية، إذ بدأت ارتدادات الأحداث تنتقل إلى مجتمعات أخرى، يؤكد مسؤولية الدول والسلطات في تحقيق القوة في المجتمعات، فالرجل الذي ترك أسرته تحولت إلى هشيم، ولا يكون قوياً بضعف امرأته وأسرته وأولاده، ولكنه يشكل قوة وأسرة قوية بقدر ما يمنح أسرته قوة وشخصية واستقلالية.
وكذلك الأمر للحكومات والسلطات عندما تحقق لرعاياها القوة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية فإنه من الصعب على أي شيء أن يدخل فيها ويؤثر، فالقوة الفكرية رأي، والرأي المدعم بالقناعات لن يتغير بدخول الغوغاء، والقوة الاقتصادية مال، ورأس المال جبان ويجب المحافظة عليه، وعندما يكون الاقتصاد المؤسسي والفردي بصحة لن يتنازل عن هذه الصحة للرعاع واللصوص، والقوة الاجتماعية تماسك تلغي أي نوع من الفوارق والنوازع التي تتبادر إلى الذهن، ولن يتنازل أحد عن مؤسسة اجتماعية قوية تحظى باحترامه، وهذا يحقق للسلطة القدرة على خلق القوة السياسية والعسكرية، والحفاظ عليها في نخبتين لا أحد يقترب منهما.. ولا يحتاج المواطن إلى سلاح القوة، ولن يحمل طلقاته في جيبه، لأن القانون هو الذي يجعله قوياً، ويجعله مرتاحاً، بل يجعله منصاعاً بالرضا التام.. القانون قوة عامة تستخدمها نخبتان، والسلاح قوة فردية يملكها من هو ليس أهلاً لامتلاكها… والحكمة قوة يمكن أن تجعل الإنسان قادراً على فعل ما لا يتوقع منه، ولكن شروط وجود الحكمة وتوفرها بحاجة إلى نظرة موشورية إلى خيوط القوة ولعبتها وسرّها، من دون التخلي عن القوة الشخصية، وإكساب درجات من القوة لمن هم سبب قوة القوي، وإلا تسلل الضعف إلى كل ما نظنه قوياً!
يقول ابن خلدون بالدول، وبأن الدول تدول وتمر بمراحل عدة، ولكنه بحكمته وعلمه شبهها بالإنسان من الولادة إلى الشباب والرجولة والهرم والشيخوخة والنهاية، اليوم القوة بيد الدول الكبرى وشركاتها متعددة الجنسية، ومن قبل كانت القوة لغيرها، ومن قبل كانت لأقوام آخرين، ولكن كل استعراض للتاريخ يجعلنا نبحث عن القوة ومواطنها فينا، فالقوة هي الناموس، وهي من يفرض قوانينه وأنظمته على المجتمع والمجتمعات، ولا يكفي أن نظن أنفسنا أقوياء، ولا يكفي أن نكون تقانيين، ولا يكفي أن نملك لغات عدة، ولا يكفي أن نباهي بتراث وتاريخ… ولا يكفي… لكن الأمر يحتاج إلى جملة واحدة وهي أن نقرر أن نكون أقوياء بأنفسنا، وأقوياء بمن هم حولنا من الدائرة الضيقة إلى الوطن الكبير، ولن أكون قوياً إلا إذا كان من حولي أقوياء.