المصرف المركزي وسعر الصرف.. سياسة عدم الاصطفاف
| علي محمود محمد
تشهد الليرة السورية استقراراً ملموساً أمام الدولار منذ عام، تبعه تحسن واضح منذ أكثر من شهر، قبيل موسم عيد الفطر حتى الآن، رغم أن التجارب السابقة كانت توحي بعودة ارتفاع سعر الصرف بعد عيد الأضحى وانتهاء حالة زيادة العرض المؤقت من القطع الأجنبي بسبب تحويلات المغتربين، وهو الآن يتحسن يوماً بعد يوم في السوق الموازية ليصل سعره إلى (1$ = 500 ل. س) ما دفع المصرف المركزي «ببوست فيسبوكي مقتضب ومعبّر لحاكم مصرف سورية المركزي الدكتور دريد درغام» إلى تخفيض سعر دولار الحوالات من 514.85 ل. س إلى 510 ل. س، ثم بوست آخر بتخفيض السعر إلى 508 ليرات، رافقه ذلك وبشكل آني انخفاض لسعر الصرف في السوق الموازية إلى ما دون الـ500 ل. س منخفضاً دون 490 ل. س في بعض المناطق.
صحيحٌ أن هذا الانخفاض الرسمي بسيط إلا أن له دلالات كثيرة أولها هو تروّي المصرف المركزي في تحديد السعر ودراسته لتأثيرات ذلك، وثانيها فهو عدم سماحه لأهواء السوق السوداء وروادها بالتحكم بالسعر الذي يريده، أما الدلالة الثالثة فهي أن التحسن البطيء لسعر صرف الليرة السورية هو أجدى وأنفع من التحسن السريع لكون ذلك قد يقي السوق والمدخرين من فوضى السوق وآثارها الضارة اقتصادياً ومن إمكانية استغلال ذلك من قبل المضاربين، ويمكن أن نستخلص هذه الدلالات عند التمعن في كلام الحاكم عندما قال «بعد أكثر من سنة على تثبيت السعر قرر مصرف سورية المركزي تخفيض سعر صرف الحوالات ليصبح 508 ل. س».
ومن ذلك نستنتج أن المصرف المركزي يسعى في تعاطيه مع سعر الصرف إلى تطبيق سياسة «عدم الاصطفاف» بمعنى قياس مدى ابتعاد سعر الصرف الحقيقي الجاري عن مستواه التوازني حيث يؤدي هذا الابتعاد بين السعرين إلى عدم التوازن في الاقتصاد الكلي، ما يجعل أي اقتصاد أكثر ضعفاً عند التعرض للصدمات (خارجيةً كانت أم داخلية، على جميع الصعد الاقتصادية والسياسية والعسكرية) أو لدى إثارة الإشعاعات.
عدم الاصطفاف
يُلاحظ من خلال إجراءات المصرف المركزي أنه يدرس بعناية (درجة عدم الاصطفاف) التي تستوجب منه تدخلاً مباشراً أو غير مباشر في سوق القطع الأجنبي، ولكن تعترضه مشكلة تحديد سعر الصرف التوازني الحقيقي ليُصار إلى دراسة مدى ابتعاده عن سعر الصرف الجاري والرسمي، فتحديد سعر الصرف التوازني الحقيقي يساعد في تقوية نظام سعر الصرف في سورية ليكون أكثر قدرةً على امتصاص الصدمات ويحقق استقراراً في سعر صرف العملة الوطنية، ما سينعكس استقراراً على الاقتصاد الكلي في المرحلة القادمة (مرحلة إعادة الإعمار) ويسمح بجذب الاستثمار الأجنبي ويسهل حركة التجارة وانتهاءً بترسيخ أسس واضحة راسخة لاستدامة التنمية.
في المدى القصير، يعتبر سعر الصرف في السوق الموازي هو سعر الصرف التوازني، ومن ثم فالفارق بين سعر الصرف الرسمي والموازي يمثل درجة عدم الاصطفاف، وعليه فتقليل الفارق بين السعرين ينعكس إيجاباً على الاقتصاد الكلي وسعر الصرف الحقيقي وذلك يعود لتأثير السلع المستوردة (على سبيل المثال) على رفع معدلات التضخم، فمع استعادة سعر الصرف لمستواه التوازني يتوقع أن ينعكس ذلك إيجاباً على أسعار السلع المستوردة ومن ثم تحجيم التضخم.
مزيد من التحسن
مع التحسن الذي تشهده سورية على الصعيدين السياسي والعسكري (تحرير دير الزور وعودة الشرق السوري المنقطع منذ 2013) وتزايد الثقة بإجراءات المصرف المركزي، وبانتظار الفترة المقبلة التي من الطبيعي أن تشهد زيادةً في الإنتاج (الزراعي والصناعي) وإنتاج للنفط السوري المستعاد وتحسناً في الواقع الكهربائي رغم تصديره لدول الجوار، وزيادةً في تدفقات النقد الأجنبي وفتح المعابر وعودة عمل الترانزيت، فمن ثم سوف يتحسن سعر صرف الليرة أمام الدولار في السوق الموازي.
ويتوقع أن يستمر المصرف المركزي بتقليص الفارق بين سعره الرسمي والسعر الموازي بشكل هادئ وبطيء مع الحرص على إبقاء السعر الرسمي أعلى من الموازي بفارق مقبول رغبةً منه في استقطاب المدخرات بالعملات الأجنبية والحوالات الخارجية الواردة إلى القطر والتي وإن كلفته نقوداً بالليرة السورية أكثر إلا أن ترميم مركز القطع الأجنبي لديه يبقى الغاية الأسمى حالياً، حيث إن إصدار السياسات النقدية والتمويلية وتحديد السيولة الكلية للاقتصاد هي من أهم وظائف المصرف المركزي لارتباطها بالأهداف الاقتصادية الكلية التي يسعى لتحقيقها بالتعاون مع الوزارات الاقتصادية في الحكومة السورية، حيث يثبت سعر الصرف في سورية أنه يعتمد على أساسيات الاقتصاد الكلي وليس ظاهرة نقدية فحسب.
تحجيم المضاربة
على المقلب الآخر، يجب على المصرف المركزي أن يعمل على معالجة العوامل المؤثرة في سعر الصرف، فسعر الصرف يتأثر بارتفاع حجم الطلب الحقيقي وحجم الطلب غير الحقيقي «المضاربة»، وهذا يتطلب منه في الفترة المقبلة القيام بإجراءات متقدمة لتحجيم الطلب غير الحقيقي وإصلاح نظام سعر الصرف، ومما يساعد المصرف المركزي في تطبيق سياسته النقدية الخاصة بسعر الصرف هو سلامة المصارف السورية العاملة في سورية من أي استغلال لتجارة العملة من قبل المضاربين وهذه نقطة إيجابية تُحسب للمصارف السورية وللمصرف المركزي بقيادته لهذا القطاع، وترافق ذلك أيضاً مع إصدار المصرف المركزي لقراره الأخير والخاص بالسماح لمؤسسات الصرافة باستخدام حصيلتها من القطع الأجنبي في تلبية الطلب عليه وبيعها للمصارف بدلاً من بيعها للمصرف المركزي على أن يتدخل هو بشكل حقيقي وفقاً للدور المنوط به.
هذا الإجراء من شأنه الحدّ من السوق الموازية وتحجيم الطلب غير الحقيقي «المضاربة» وذلك في سبيل تحقيق الاستقرار لسعر صرف الليرة السورية يشترط التزام المصارف بالشراء، فالمصرف المركزي ينتهج السياسة التي تقول إن التدخل في سوق القطع الأجنبي يؤدي إلى خلق وتقوية السوق «السوداء» وهذا يعكس اختلالاً أساسياً في سوق النقد الأجنبي، كما أن عدم التدخل منه في ظل وجود صدمات خارجية يؤدي أيضاً إلى اختلالات في سعر الصرف، ومن ثم فالمصرف المركزي يرفع شعار جاهزيته للتدخل لتنظيم سوق النقد الأجنبي ومنع المضاربة في العملة الوطنية عندما تدعو الحاجة وهذا كفيل بتدعيم الثقة به وزيادة النقاط الإيجابية التي تُسهم بها إدارته.