ثقافة وفن

الذكرى الرابعة لرحيل صوت الجبل وديع الصافي … غنى لسورية وللشام.. الرجل الذي قال: سورية أمّ العروبة وهي ضمير العرب وشرفهم

| وائل العدس

قبل أربع سنوات، غادر صوت الجبل الصوت الصافي وقديس الطرب ومطرب الأرز وعملاق لبنان.
«طلّ الصباح وزقزق العصفور» لكن صوت الجبل لم يستيقظ في ذلك الصباح… إنه الصوت الذي ارتقى إلى مصاف الأيقونة في الذاكرة بعد أن نحت فيها طويلاً، ظلّ محتفظاً بقدراته الخارقة رغماً من تقدّم العمر.
الصوت الصافي المدهش في تركيبة وحدت بين جبروت الجبل وعذوبة السماء، أخذ صاحبه إلى أقاصي الأرض وإلى أعماق الجمال.
وكان الصافي قد تعرض لوعكة صحية خلال وجوده في منزل ابنه، حيث شعر بهبوط حاد في الدورة الدموية، نقل إثره للمستشفى، ولم تفلح جهود الأطباء في إنقاذه، بسبب عدم تحمل قلبه للإجراءات العلاجية.

مدرسة غنائية
كان لوديع الصافي الدور الرائد بترسيخ قواعد الغناء اللبناني وفنه، وفي نشر الأغنية اللبنانية في أكثر من بلد، وأصبح مدرسة في الغناء والتلحين، ليس في بلده فقط، بل في العالم العربي أيضاً، واقترن اسمه بلبنان، وبجباله التي لم يقارعها سوى صوته الذي صور شموخها وعنفوانها، هذا الصوت الماسي العصي على الفناء.
وغنى وديع الصافي أكثر من خمسة آلاف أغنية وقصيدة لحن معظمها ومنها أغنية «طل الصباح وزقزق العصفور»، التي كانت أولى أغانيه عندما هاجر مدة ثلاث سنوات إلى البرازيل في عام 1947، وعندما عاد كرت سبحة الأغاني فكان أبرزها «لبنان يا قطعة سما» و«صرخة بطل» و«الليل يا ليلى يعاتبني» و«شاب الهوى وشبنا» و«مريت ع الدار»، و«لوين يا مروان» و«عصفورة النهرين» و«الله يرضى عليك يا ابني» و«الله معك يا بيت صامد بالجنوب» و«موال يا مهاجرين ارجعوا».
كما غنى «طلوا أحبابنا» من الحان الأخوين رحباني ومع فيروز ونصري شمس الدين غنى «سهرة حب» و«يا شقيق الروح» و«عندك بحرية» من ألحان محمد عبد الوهاب و«على اللـه تعود على الله» من ألحان فريد الأطرش.

سيرة حياته
ولد وديع فرنسيس، المعروف بوديع الصافي، في الأول من تشرين الثاني 1921 في قرية «نيحا الشوف»، وهو الابن الثاني في ترتيب العائلة المكونة من ثمانية أولاد، كان والده بشارة يوسف جبرائيل فرنسيس، رقيباً في الدرك اللبناني.
عاش وديع طفولة متواضعة يغلب عليها طابع الفقر والحرمان، وفي عام 1930، نزحت عائلته إلى بيروت، ودخل مدرسة دير المخلص الكاثوليكية، وبعدها بثلاث سنوات، اضطر للتوقّف عن الدراسة، لأن جو الموسيقا هو الذي كان يطغى على حياته من جهة، ولكي يساعد والده من جهة أخرى في إعالة الأسرة.
بدأت مسيرته الفنية بشق طريق للأغنية اللبنانية التي كانت ترتسم ملامحها مع بعض المحاولات الخجولة قبل الصافي عن طريق إبراز هويتها وتركيزها على مواضيع لبنانية وحياتية ومعيشية.
في عام 1938، وبينما كان وديع في عمر الـ17، دخل عليه شقيقه توفيق يحمل قصاصة ورق عن إعلان لمسابقة غنائية تنظمها إذاعة لبنان الرسمية، والمعروفة حينذاك بإذاعة «الشرق الأدنى»، فشارك في المسابقة ونال الجائزة الأولى في الغناء من بين 40 متبارياً، ولشدة إعجاب لجنة التحكيم بصوته، وفي مقدمهم رئيسها إميل خياط، طلبت منه الانتساب رسمياً إلى الإذاعة، وأطلقت عليه اسم وديع الصافي، بدلاً من وديع فرنسيس.
استطاع الصافي، وفي فترة قصيرة، إبراز موهبته على أفضل وجه، وكانت أول أغنية فردية له بعنوان «يا مرسال النغم».
أثناء فترة انتسابه للإذاعة، اضطر الصافي إلى أن يحل مكان أحد الشيوخ ليؤذن لصلاة العصر، انهالت بعدها الاتصالات والرسائل على الإذاعة لتسأل من هذا الشيخ صاحب هذا الصوت الشجي.
في أواخر الخمسينيات بدأ العمل المشترك بين العديد من الموسيقيين من أجل نهضة الأغنية اللبنانية انطلاقاً من أصولها الفولكلورية من خلال مهرجانات بعلبك التي جمعت وديع الصافي وفيلمون وهبي والأخوين رحباني وزكي ناصيف وغيرهم، فشارك في مسرحيات العرس في القرية وموسم العز وشكل ثنائياً غنائياً ناجحاً مع المطربة صباح في العديد من الأغاني والاسكتشات.
أراد وديع أن يثبت خطواته الفنية أكثر فأكثر، فحاول ذلك جاهداً أوائل الستينيات، عندما عرض عليه نقولا بدران، والد المطربة ألكسندرا بدران، المعروفة باسم «نور الهدى» في مصر، السفر إليه.
مكث الصافي في القاهرة نحو عام، تعرف خلاله على ملحنين وممثلين مصريين، ليعود إلى لبنان ويتبناه هذه المرة محمد سلمان، زوج المطربة نجاح سلام، وشارك معها في أكثر من فيلم سينمائي، منها «غزل البنات»، ومن ثم مع صباح في «موّال»، و«نار الشوق» عام 1973.
مع بداية الحرب اللبنانية، غادر وديع لبنان إلى مصر سنة 1976، ومن ثمّ إلى بريطانيا، ليستقرّ سنة 1978 في باريس.. وكان سفره اعتراضاً على الحرب الدائرة في لبنان، مدافعاً بصوته عن لبنان الفن والثقافة والحضارة.
سنة 1990، خضع لعملية قلب مفتوح، ولكنه استمر بعدها في عطائه الفني بالتلحين والغناء.. فعلى أبواب الثمانين من عمره، لبّى الصافي رغبة المنتج اللبناني ميشال الفترياديس، لإحياء حفلات غنائية في لبنان وخارجه، مع المغني خوسيه فرنانديز، وكذلك المطربة حنين، فحصد نجاحاً منقطع النظير، أعاد وهج الشهرة إلى مشواره الطويل.
يحمل الصافي ثلاث جنسيات المصرية والفرنسية والبرازيلية إلى جانب جنسيته اللبنانية إلا أنه يفتخر بلبنانيته ويردد أن الأيام علمته بأن «ما أعز من الولد إلا البلد».

الصافي وعشق سورية
«إنه عربون محبّتي الخالصة، وترجمة لإيماني وامتناني لدولة سورية الحبيبة قائداً وشعباً… هذا البلد الذي كان ولا يزال سبّاقاً في تقدير وديع الصافي». بهذه الكلمات أطلق الفنان الراحل من دمشق أغنيتين جديدتين، هما «وطن السلام» و«إلاك لا أمل» عام 2008.
وقال إن العملين اللذين غنيتهما وعرضهما التلفزيون السوري يعتبران بمنزلة امتنان لسورية التي لها فضل بارز في مسيرتي الفنية منذ الخمسينيات حتى اليوم، وتحديداً منذ أغنية «عاللوما» التي سجلها في الإذاعة السورية.
ورداً عن سؤال عن وضعه الصحي بعد الوعكة التي ألمّت به أخيراً، واستدعت نقله إلى المستشفى في الشام، حيث كان يشارك ضمن احتفالات دمشق عاصمة الثقافة العربية، قال: «صحتي جيدة الآن، لقد تحسنت هنا في سورية، وأشكر الرئيس بشار الأسد الذي اهتم بي عندما دخلت المستشفى».
وبعد اندلاع الأزمة في سورية، وعند زيارة قام بها إلى دمشق عام 2012، أكد أن «سورية أم العروبة والمرجع الأول والأخير لها وهي ضمير العرب وشرفهم».
وقال: «انتماؤنا لهذا البلد العريق كانتمائنا للبنان، فلا فرق بين البلدين وما تتعرض له سورية اليوم هو بفعل الصهيونية العالمية لكنها غيمة سوداء ستزول إن شاء الله، فأنا مؤمن بالشعب السوري وقدرته على تجاوز هذه المرحلة».
وتابع: «أحيي سورية قيادة وشعباً وأتمنى أن تخرج من محنتها سريعاً فالسوريون هم حماة الأرض والعرض وحماة الأمة العربية.
وأضاف: سورية هي دم العرب وشرفهم وبدايتي الفنية كانت منها ولولاها لن تبقى الأمة العربية بخير.
وخلال زيارته الأخيرة إلى دمشق عام 2012، أقامت جوقة الفرح حفل تكريم للفنان اللبناني لمناسبة بلوغه التاسعة والثمانين في دار الأوبرا السورية مؤدية مجموعة من أغنياته وألحانه، في حين أنشد المطرب أغنيتين بصوته.
وتوجه الفنان اللبناني إلى الجمهور بالقول: أهلاً بالشعب السوري زهرة العرب.. أهلاً بأهلي رئيساً وشعباً»، وأضاف: «هذا أعظم عيد بحياتي».
أما الدرع التي تسلمها فقد كتب عليها كلمتان «الفرح الصافي» على شكل قلب ونقشت تحتهما عبارة «بل في الزمن ينقش اسمك».
ومن أغنيات الصافي لسورية أغنية «حبيبة عمري سلاماً» ويقول فيها: «وجن الهوى يا شآم، وما يفعل المستهام، عرفت غرامك طفلاً‏، ولا لن يشيب الغرام». ‏

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن