دمشقيات دمشقية صور ومشاهد عاشت بالذاكرة .. بين العلم والعادات والثقافة تحتفظ المدينة بألق التاريخ
| منير كيال
دفعني الحنين إلى أيام الشباب لاسترجاع صور ومشاهد كان عليها أسلافنا، وكان لها شأن في سلوكهم وتصوراتهم وأحوالهم، وحتى بمناسباتهم الاجتماعية، خاصة بعد ما عملت أسباب تجدّد الحياة وتطور معاييرها وأساليبها على حلّ عُرا التواصل فيما يتعلق بهذه الصور والمشاهد، بين جيل من سبقنا بل بين جيلنا والجيل الحالي، ذلك أن استرجاع هذه الصور والمشاهد بأكبر قدر من المصداقية، يذكرنا بما كان عليه أسلافنا من أواصر المحبة والألفة والإيثار والتعامل، ذلك أن من لا يعرف ماضيه، ويستشرف جذور تاريخه ولا يجعل من ذلك سبيلاً للاعتزاز فلا تاريخ له.
إنها صور كثيرة تحوم برأسي، تجعلني مشدوداً إلى الحديث عنها حتى إنني لا أكاد أتعايش مع واحدة منها حتى تترامى واحدة أخرى، فأحار بين هذه وتلك. وسأحاول في هذا البحث أن أقف بعض الشيء مع ما تيسر لي عسى أن أحاول مرة أخرى.
الإسم والكنية
ومن هذه الصور ما كان من موضوع كنية الدمشقي التي تُعدّ من المواضيع التي تميزت بها مدينة دمشق ذلك أن مدينة دمشق من أكثر الحواضر العربية بإلصاق اسم المرء، بكنية ترادف اسمه وتلتصق به، فتميزه عن غيره، وتكون صفة ملازمة له إلى جانب السمات والميزات الأخرى التي تفرّدت بها دمشق، فقد نجد بحواضر أو أماكن أخرى صعوبة بتحديد هوية المتشابهين بالاسم، وخاصة في أمور الامتحانات العامة أو في تخصيص الملكية من الميراث، الأمر الذي يستدعي اسم الأب واسم الأم ومكان وتاريخ الولادة والخانة (القيد) بسجل النفوس وغير ذلك من الأمور التي تستوجب تحديد شخص بعينه من دون أي أدنى التباس أو أدنى شك.
وإذا وجدنا في هذه الأيام من يفاخر بكنيته، فقد يكون مصدر هذه الكنية حرفة تستحق المفاخرة والتعالي، وأصبحت في أيامنا غير جديرة بالمفاخرة، ولعل هذا ما يفسر رغبة الكثيرين بتبديل كنيتهم، ولا ننسى أن من هذه الكُِنى ما كان يرتبط بعمل غير الحرفة ومن ذلك العمل الذي انفرد به التحصلدار والمحملجي والعكام والمحايري… ومن تلك الصور الكتاتيب التي كان لها تلقين أبناء العامة في العصر العثماني لاقتصار المدارس على أبناء الخاصة، بعد أن عمدت السلطة العثمانية إلى أسلوب التتريك للخلاص من النزعة القومية التي انتشرت بأرجاء الدولة العثمانية، أمصار البلاد العربية. فقد حملت هذه الكتاتيب على عاتقها عبء تعليم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة والخط وعلوم القرآن الكريم والسنّة النبوية، معتمدة على ما كتب بهذا الشأن، كالآجروميّة والشاطبية والألفيّة والقراءات السبع للقرآن الكريم، وأكثر هذه الكتاتيب ما كان يتخذ من مسجد الحي مقراً له، فإذا ختم التلميذ قراءة القرآن الكريم فإنه يلتحق بعمل والده أو حرفته، وقد يتابع تعلمه بإحدى الحلقات العلمية وكان من أولئك الدارسين من أصبح عضواً بمجمع اللغة العربية بل من تولى عمادة كلية الآداب بجامعة دمشق.
ساحات دمشق
ومن الصور والمشاهد التي عاشت بالذاكرة ما كان من أمر ساحة المرجة، فمن المؤكد أن لا أحد من أبناء المدينة ومن المقيمين بها لا يعرف موقع هذه الساحة بدمشق، وقد مرّ بها مراراً وتكراراً لكن ما يخطر بالبال عن هذه الساحة قد لا يخطر على بال الكثيرين، فإذا كانت هذه الساحة في وسط مدينة دمشق، وتشكل عقدة تواصل بين أرجاء المدينة حتى قيل إن جميع الدروب توصل إلى المرجة، فإنها كانت تعرف في بدايات القرن التاسع عشر باسم الجزيرة وباسم ما بين النهرين لتفرع نهر العقرباني عن نهر بردى ما يشكل جزيرة خضراء كانت مقصداً للمتنزهين أيام الجمع وأيام الراحة.
كما أطلق على ساحة المرجة اسم عين القصارين، لوجود أرض خضراء معشوشبة على أطرافها، وهي محفوفة بأشجار الحور والصفصاف، وكان القصارون الذين كانت مهنتهم إكساب القماش الأبيض نصاعة ينشرون القماش على العشب ويرشونه بالماء مراراً بوساطة عصا طويلة تنتهي بعبوة يغرف القصّار بها الماء ويعمد إلى رش ذلك الماء على القماش المفرود على العشب، حتى يقصر ويصبح ناصع البياض، وعين القصارين هذه متنزه لطيف ماؤه عذب، يقصده زمن الصيف العديد من المتنزهين كان منهم من يحضر طعامه معه فيتناوله على ذلك العشب ومنهم من يجلس بمقهى من المقاهي المنتشرة هناك التي يزداد ارتيادها أيام الصيف، فيتناول بذلك المقهى كأساً من الشاي أو نحوه من مرطبات التوت الشامي أو التمر هندي أو الجلاب، وقد يدخن الأركيلة وهو جالس على كرسي أو على حصيرة مفروشة على ذلك العشب. بعد أن يناول من يريد تدخين نفس من الأركيلة عامل المقهى بعض التنباك العجمي أو اللاذقاني، ينقع ذلك العامل التنباك بالماء، ثم يعمد إلى عصره ويضعه على رأس الأركيلة، ويضع فوقه جمرة من الفحم، ثم يقدم هذه الأركيلة إلى السيرنجي، ومن هؤلاء المرتادين المقهى بعين القصارين من يلعب مع زميل أو صديق له بالنرد «طاولة الزهر» والضومينا، أو ورق الشدة، أو اللعب بحصى المنقلة.
أما تسمية ساحة المرجة باسم ساحة الشهداء فهي نسبة لشهداء الثورة العربية الكبرى الذين شنقهم الوالي العثماني جمال باشا الملقب بالسفاح يوم الإثنين السادس من شهر أيار لسنة 1916م.
وقد شيدت حول الساحة في العهد العثماني مجموعة من الأبنية مثل بناء السرايا والعدلية والبريد وبناء العابد، فضلاً عن بناء البلدية الذي شيد زمن ولاية الوالي العثماني حسين ناظم باشا سنة 1900م وقد هدم هذا البناء أواخر العقد الخامس من القرن العشرين وشيدت مكانه بناية الشربتلي القائمة الآن ولعل من الجدير أن نذكر أن بناء البلدية الآنف الذكر جرت به مراسم إعلان استقلال سورية من الحكم العثماني وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سورية يوم الإثنين الثامن من شهر آذار سنة 1920م وعرف هذا اليوم بيوم الاستقلال.
أما تغطية ساحة المرجة فكانت بعهد الوالي العثماني محمد راشد باشا سنة 1866م واستكملت التغطية بمطلع العقد السادس من القرن العشرين، وكانت ساحة المرجة تتعرض في فصل الأمطار لفيضان نهر بردى فيما يُعرف بالزودة فتتحوّل الساحة إلى ما يشبه البحيرة التي يتعذر خوضها، وقد يمتد أثر هذه الزودة إلى طلعة التجهيز (ثانوية جودت الهاشمي) والتكية السليمانية وجسر الحرية غرباً، إلى سوق التبن وسوق العتيق شرقاً، ولا تزال الأرصفة الواقية لهذه الزودة باقية إلى يومنا هذا عند بداية سوق التبن شرقي ساحة المرجة، وفي حال حدوث هذه الزودة كانت طرق المواصلات تعتمد على أكتاف من تفرغوا لهذا العمل إذا لم يتيسر لهم الانتقال بالحناطير.
أما النصب التذكاري القائم بساحة المرجلة ويتوسطها، فهو لذكرى بدء الاتصالات البرقية بين مدينة دمشق والمدينة المنورة بالحجاز، وقد أقيم هذا النصب بالعهد العثماني سنة 1907م أيام السلطان عبد الحميد الثاني، وكان والي دمشق حسين ناظم باشا في ذلك الحين وهذا النصب من البرونز ومن تصميم وتنفيذ مهندس إيطالي، وفوق النصب، أنموذج لجامع يلدز باستانبول.
ومن جهة أخرى، فقد ظلت منطقة المرجة مركزاً لمدينة دمشق، ومحط العديد من الفعاليات لمدينة دمشق، فضلاً عن الكثير من سُبُل تزجية الوقت المقامة حولها، كما كانت هذه الساحة ملتقى المواصلات التي تتوزع إلى أنحاء مدينة دمشق، وجميع وسائل ووسائط المواصلات كانت تتمركز حول النصب التذكاري المشار إليه.
الترامواي
ولما ظهر الترام (الترامواي) أنشئت حديقة حول النصب التذكاري وأصبحت الساحة مركزاً لانطلاق عربات الترام إلى المهاجرين وحيّ الشيخ محيي الدين والميدان والقصاع، إضافة إلى عربات الترام التي كانت تصل مدينة دمشق بناحية أو بلدة دوما بريف دمشق.
ولطالما نحن بصدد صور ومشاهد من دمشق فلابد من الوقوف على ما كانت تسميته زقاق الزط بحي الشاغور الجواني من مدينة دمشق، يشغل هذا الزقاق الطريق الممتد من شارع الأمين شرقاً وحتى الباب الصغير غرباً، ومرد اهتمامي بهذا الزقاق لأني من أبناء هذا الحي، به ولدت وبه نشأت وعرفت أبجدية الحياة، وكلما تذكرت هذا الزقاق، تراءت لي أفكار أرجو أن تكون مقاربة لحقيقة تسمية هذا الزقاق، ذلك أن من الباحثين من ذهب إلى أن سبب إطلاق هذه التسمية على الزقاق سكنى جماعة من القرباط (الغجر) بهذه المنطقة فنسب الزقاق إليهم.
وأخال أن هذه التسمية مُجافية للواقع الذي عليه هذا الزقاق لأن هناك سبباً آخر للتسمية، وهو تجاور سكنى عدد من اليهود بمجاورة سكنى المسلمين من أهل الزقاق بدلالة وجود كنيس يهودي عند الجانب الأيسر من بداية الزقاق من ناحية الشرق (شارع الأمين) بالقرب من صنبور مياه عين الفيجة وكما كان على الفتاة اليهودية التي على وشك الزواج أن تدفع لعريسها ما يعرف بالدوطة (المهر) ولو كانت على جانب كبير من الجمال وإلا تصبح عانساً، فكان على من تربأ أن تصبح عانساً أن تزطّ خلسة من عند أهلها إلى شاب مسلم من أبناء هذه المحلّة وتتزوج منه، ولذلك أطلق على الزقاق اسم زقاق الزط، ثم أصبحت التسمية الرسمية للزقاق باسم زقاق الإصلاح، وقد جانب الدارسون التسمية الأصح، وخاصة أن الزط لم يسكنوا أو يقيموا في فترة داخل سور مدينة دمشق، ولم يكن للزط سكنى بحي الشاغور من قريب أو بعيد.
وكان من هذه الصور، جامع يلبغا، فهو من أهم المشاهد التي لا تزال بالبال من مدينة دمشق، يعود هذا الجامع إلى العصر المملوكي، كما أنه من أكبر الجوامع التي خارج سور المدينة، شأنه في ذلك شأن جامع التوبة وجامع تنكز، بني الجامع زمن نائب السلطنة المملوكي سيف الدين يلبغا اليحياوي سنة 1264م وقد درج العامة على إطلاق تسمية البغا على الجامع تصحيفاً لكلمة يلبغا، وقد بني الجامع على نمط الجامع الأموي بدمشق وتميز باتساع مساحته التي بلغت 450 متراً مربعاً.. وكان موضع الجامع تلاً يشنق عليه، وكان آخر من شنق على ذلك التل معتوهاً فشطح به حبل المشنقة ووقع على الأرض ومات ولم يعد يشنق عليه أحد.
نهر دمشق
كان بناء الجامع على ضفة نهر بردى إلى الجهة الشمالية من ساحة المرجة وكان يقابله من جهة الشرق ما كان يعرف باسم تحت القلعة، وهي مساحة تحف بها الدور وتعلوها القصور، وبها كل ما يروم الإنسان وتشتهيه الشفة واللسان ومن ذلك دار البطيخ التي كان يُباع فيها جميع فواكه دمشق وغوطتها، وكذلك محلة الخراطين وسوق القماش الفراء والعبي والنحاس والمحايرية والنجارين، وسوق حاجات السوائم (السروجية)… حتى إن المرء لا يكاد يستطيع رؤية الأرض لكثرة ما في المكان من المتعيشة والشرائين.. وكان إلى جهة الشمال الشرقي من الجامع نزلة (حدرة) جوزة الحدباء من حي سوق ساروجة التي تنتهي عندما كان يُعرف بفندق قصر دمشق «دامسكوس بالاس» الذي نزل به غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا لدى زيارته مدينة دمشق كما كان بمقابلة بناء الجامع بناء مؤسسة الريجي «التنباك» قبل أن تحترق وذلك كله فضلاً عن سوق العتيق والبحصة وسوق علي باشا الذي تباع فيه فواكه الشام في غير أوانها.
كان بناء جامع يلبغا بغاية الحسن والاكتمال، لما حفل من المحاريب والنوافذ المقرنصة والزخارف المحفورة، والكتابات المنقوشة على الحجر، وكذلك النوافذ الزجاجية الملونة بأسلوب المعشق، فضلاً عن المئذنة والأبواب حتى لكأنه نسخة مصغّرة عن الجامع الأموي بدمشق وقد حدثنا عن جامع يلبغا أبو البقاء البدري بكتابه نزهة الأنام في محاسن الشام.
مساجد دمشق
ومن جهة أخرى فقد كان هذا الجامع من أحسن الجوامع بدمشق ترتيباً، كان بصحنه (باحته) بركة ماء مربعة داخلها فسقية مستديرة بها نوفرة تتشامخ منها المياه إلى طول قامة الإنسان، وفوق البحرة سقالة عليها عريشة عنب يصل ماء النافورة إلى عناقيد عنب العريشة، وبجانب البحرة حوضان لأشجار الفواكه والرياحين، وللجامع شبابيك تطل على جهاته الثلاث، على ما تحت القلعة من الشرق وعلى ما بين النهرين الحافلة بالدور والقصور والحوانيت، أما الجهة الجنوبية فكانت على نهر بردى، يشكل صحن جامع يلبغا الجانب الشمالي من المساحة العامة للجامع، وبهذا الصحن أروقة تحيط به من الشرق والغرب والشمال، وهي شبيهة بأروقة الجامع الأموي بدمشق من حيث إنها مبنية على قناطر بأقواس محمولة على عُمد وعضائد، وبالصحن ثلاثة أبواب، باب شرقي يسمى باب الحلق وهو مقابل محلّة تحت القلعة، وباب ثانٍ غربي يقابل الباب الشرقي، ويسمى باب المنزه، أما الباب الشمالي فهو الباب الثالث ويعرف باسم باب الفرج وهو يتوسط الواجهة الشمالية للجامع، ويخرج من هذا الباب إلى الموضأ، وإلى جانب هذا الباب مئذنة مشيدة بالحجر، وقد جدّدت أكثر من مرّة، أما حرم جامع يلبغا فهو على شكل رواقين موازيين للقبلة (الجنوب) يفصلهما أعمدة وعضائد فوقها قناطر تحمل السقف كما هي الحال بالجامع الأموي.