قضايا وآراء

حلم يقظة أم خطأ حسابات؟

| عبد المنعم علي عيسى

لم تطل المعركة التي كانت تهدف إلى استعادة كركوك إلى سلطة الحكومة المركزية ببغداد على غير ما كانت تشي به تقارير الحشود التي ما انفكت تتوالى منذ أيام وهي تشير إلى عديد وعتاد ما حشده طرفا الصراع مما كان ينبئ بمعركة ضروس كانت تريدها البيشمركة خارج المدينة قياساً إلى نقاط التمركز التي تموضعت فيها الوحدات المستقدمة والتي كانت في أغلبيتها تنحو باتجاه جنوب المدينة على الرغم من وجود رؤية عسكرية تقول: إن تلك المنطقة لا تصلح لأن تكون خطاً يمكن الدفاع عن المدينة انطلاقاً منه، وربما كان ذلك مؤشراً إلى أن حكومة الإقليم لم تكن تضع في اعتبارها احتمالات المواجهة حتى قبل أن تعمل القوات الاتحادية على دخول المدينة، فتصبح الحشود هنا استعراضية أو هي محاولة لدفع الخصم كي يعيد حساباته من جديد، إلا أن الأمر لم يثمر بل على العكس فقد أضاف إلى الأزمة حالاً من الاحتقان لا بد من التفكير لاحقاً بإيجاد متنفس له.
قرأ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي كان يتزعمه الرئيس العراقي السابق جلال طالباني المشهد جيداً، ومن ثم أقدم على القيام بأفضل ما يمكن القيام به بعد أن فرض زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيس إقليم كردستان المنتهية ولاياته منذ سنتين مسعود بارزاني، حصاراً على الإقليم بيده لا بيد غيره جراء خطأ فادح في حساباته وهو لم تنقض مفاعيله بعد، فقد قامت وحدات الحزب المتمركزة جنوب كركوك بتسليم مواقعها للجيش العراقي وحلفائه وهو ما أكده البيان الصادر عن بافيل طالباني، نجل جلال، في 14 تشرين الأول والذي تحدث عن شبه اتفاق بين الطرفان يقضي بإخلاء مواقع الحزب بجبهة طولها 15-18 كم وعمقها 4 كم، وربما كان هناك تيار مهم داخل الحزب الديمقراطي الكردستاني، يرى تلك الرؤية ذاتها، حتى داخل التيار الذي بقي مؤيداً له بعد انشقاق برهم صالح عنه 2 تشرين الأول الجاري، وهؤلاء هم الذين يبنون رؤاهم على الوقائع لا على الحلم، ناهيك عن أنهم جربوا التاريخ الكردي وتلمسوا جيداً مراراته كما تبصروا في أسبابها أو الموجبات التي كانت تؤدي إليها، فقد أفرز استفتاء 25 أيلول واقعاً جديداً مغايراً لنظيره السابق حتى لم يعد يشبهه في شيء وحساباته لا بد لها أن تتناغم مع ما استجد من تطورات تحت طائلة الزوال أو إعادة التشرذم من جديد.
شيء ما مهمّ حدث في الثواني الأخيرة قبيل أن يقدم الجيش العراقي على دخول المدينة منتصف ليل الأحد الماضي حتى إذا حل توقيت العصر في اليوم التالي كان الإعلان عن تمام السيطرة على مرافق كركوك المهمة في ظل أوضاع أمنية مستقرة، وهذا «الشيء» هو ما حسم الأمور باتجاه تجنب المواجهة وعدم اعتراض الجيش العراقي في مسعاه لبسط سيطرته على المدينة وذاك فعل دستوري مدعوم إقليمياً وأيضاً دولياً على الرغم مما يشوب هذا الدعم الأخير.
مهما قيل، فإن القوات الشرعية العراقية كانت تتقدم حاملة معها كل الثقل الإيراني والتركي بل ممثلة لذينك الثقلين، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يريد أن يمنع لكن لا يستطيع أن يتدخل ليس لحسابات سياسية فحسب بل لحسابات شخصية تبدو هي الأهم له فهو لا يريد خسارة مؤيديه من الأكراد، وهم يمثلون 30 بالمئة من كتل الانتخابية وهؤلاء مؤيدون للاستفتاء، بل للاستقلال، بالتأكيد ناهيك عن أنه لا يريد استثارة 12-13 مليون كردي يتجمعون في حيز جغرافي واحد ومتصل هو جزء من الجغرافيا التركية، وللأمر حساباته التي تختلف بالتأكيد عن حسابات الوجود المبعثر، وهو ما كانت أربيل كلها تدركه إلا مسعود بارزاني، المهم هو أن حسابات اللحظة الأخيرة قد جاءت صحيحة بوجوب الخروج مما يجري بأقل الخسائر الممكنة، وهو ما تحقق فعلاً فلو سارت الأمور في اتجاه آخر وحدثت المواجهة، لكان من الصعب حتى الحفاظ على المكاسب المستحصلة قبل الاستفتاء، فهذي الأخيرة، أي المواجهة، لن تنحصر داخل كركوك وربما كان من الراجح أن تصل إلى عمق أراضي الإقليم لتغيير واقع السيطرة القائمة فيه.
كركوك ليست مدينة عادية فهي تحوي في باطنها 10 مليارات من براميل النفط بقدرة إنتاجية قابلة للزيادة تتراوح بين 750 ألف إلى مليون برميل يومياً، وهذا باختصار يعني أن مداخيلها السنوية تصل إلى حدود 18 مليار دولار بواقع 50 دولاراً للبرميل الواحد، وهو ما يمثل حجم الاقتصاد السوري ما قبل الأزمة، ولذا فإن كركوك تمثل بيضة القبان في أي حسابات كردية ترمي إلى الانفصال أو حتى الإعلان عن انفكاك مالي بين الإقليم وبغداد، الأمر الذي كانت القيادات الكردية تدركه جيداً، فسعت منذ منتصف القرن الماضي إلى تكثيف الوجود الكردي في المدينة عبر الدفع بآلاف العائلات الكردية من شتى أماكن وجودها في داخل وخارج العراق، حيث تقول تقارير إن عام 1957 وحده شهد ترحيل 11 ألف عائلة إلى مركز المدينة قبل أن تستثمر، تلك القيادات، في سقوط بغداد عام 2003 وساعدها في ذلك قانون «اجتثاث البعث» الذي أصدره الحاكم المدني الأميركي للعراق بول برايمر، لتغيير واقع المدينة الديموغرافي وهو ما نجحت فيه جزئياً تحت مظلة أميركية وواقع إقليمي، كان يرى أن الأمور كلها هي تحت السيطرة.
الآن بات الواقع في العراق بما فيه إقليم الشمال، مختلفاً جذرياً وهو يحتاج بالدرجة الأولى إلى مقاربة دقيقة تجريها حكومة الإقليم تحدد فيها إذا ما كانت الأزمة بينها وبين بغداد قد انتهت أو أنها بدأت لتوها، على حين المرجح هو أن تسلك هذا الخيار الأخير قياساً إلى ارتباطاتها الراهنة و«المسطرة» التي تقيس بها كل ما يجب أن يقاس.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن