فرقة «كوميداس» من حلب إلى دمشق .. شباب سوريون واعدون… الموسيقا لغة السلام
| سوسن صيداوي – ت: طارق السعدوني
الشباب وعد المستقبل… كانوا يدا واحدة تجمعهم المحبة والإرادة وضرورة المضي والاستمرار مهما ما يقف أمامهم من صعاب ومتاعب، هؤلاء الشباب مازالت أجسادهم غضة، لم تكن قد تمكنت منها الحياة كي تجعلها قاسية، فهم من المندفعين والمحبين للمغامرة بحكم عمرهم، ولكنهم في هذه المرة لم يُقدموا على المراهنة، بل تعاملوا مع ما فُرض عليهم من أزمة بحكمة وإدراك، وأفق واسع بأنهم هم المستقبل، وأيضاً بأن الواجب عليهم البقاء والمواجهة، لا أن يقلعوا أنفسهم من جذورهم ويسيروا مع الآخرين نحو ركب الغربة والابتعاد عن الوطن. إنهم شباب فرقة «كوميداس» لموسيقا الحجرة التابعة لجمعية الشبيبة الأرمنية بحلب، الذين تشبثوا بأرضهم رافضين أن يكرر الزمن نفسه مرة أخرى أمام ما تتعرض له سورية من مجازر إرهابية ممنهجة، بل وقفوا وحاولوا، وأعادوا المحاولة مرة تلو أخرى، حتى نجحوا كشباب واعد وهو المدّعم لطريق المستقبل. واليوم بعد أن استجمعوا ذاتهم وقفوا في حفلهم على خشبة مسرح الدراما في دار الأسد للثقافة والفنون بدمشق، قادمين من حلب يدا وروحا واحدة، قدموا أجمل المقطوعات الموسيقية العالمية المتنوعة وأيضاً التراث الأرمني وما هو جديد عليهم بكل احترافية وبكل ثقة واعتداد بأنفسهم وبأنهم حقا بناة سورية الوطن، وبأن الموسيقا مبعث للسلام وبها يمكن للإنسان عبر العصور أن يحارب الشر والتخلف. كان الحفل برعاية وزير الثقافة محمد الأحمد، وأقامته مطرانية الأرمن الأرثوذكس لأبرشية دمشق وتوابعها، مع الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية، وجمعية الشبيبة الأرمنية. وبالطبع قاد فرقة «كوميداس» المايسترو سركيس إسكانيان.
الرحلة… رحلة أبدية
رحب المطران آرماش نالبنديان، مطران الأرمن الأرثوذكس لأبرشية دمشق وتوابعها، في كلمته بالفرقة في دمشق محييا مبادرتهم لتقديم هذه الحفلة، مؤكداً أهمية هذه الأمسية وخاصة في هذه الأيام العصيبة التي تحارب بها سوريتنا الإرهاب، متابعا «كلنا رجاء وإيمان بأن السلام والأمان سيعودان إلى وطننا الحبيب سورية، إن هذه الرحلة هي رحلة أبدية لا تنتهي، ولا يجوز لها أن تنتهي ما دمنا نسمع تهديدات الشر والكره في أرجاء العالم عامة وفي سورية خاصة، فنحن الشعب السوري كلّنا مدعوون لمواجهة تحديات عظيمة، لنصل إلى هدفنا الأكبر وهو إعادة إرساء قواعد السلام والأمان والإنسانية والأخوة التي بنيت عليها سورية منذ الأزل. إن الإرهاب عدو يقتل لغة السلام، ولابد لنا أن نعمل دائماً وأبداً لإيجاد لغة جديدة للوصول إلى هدفنا وهو السلام، وإحدى هذه اللغات، يمثلها الفنانون العازفون فرقة «كوميداس» القادمة من حلب، والذين قاموا بإحياء هذه الأمسية، التي هي لغة الرجاء، لغة الفن، لغة الموسيقا. إن في قلبي امتناناً كبيراً تجاه المشاركين الذين أتوا من حلب الصامدة والمنتصرة، هم الذين اختاروا هذه اللغة وقاموا بهذه المبادرة ليدخلوا إلى قلوبنا وقلوبكم، وقلوب كل الذين يحملون رجاء السلام».
صمود موسيقي أقوى
من جانبه رأى السفير الأرمني الدكتور أرشاك بولاديان أن بقاء الشباب السوري وتمسكه بسوريته في الأزمة، وتحديه لكل الظروف الحياتية والإنسانية ليس بالأمر السهل، قائلاً: «في الحقيقة أنا أحترم هؤلاء الشباب لوجودهم وصمودهم خلال السنوات الماضية، وأيضاً لنهوضهم بمهامهم الإنسانية والعملية في ظل الظروف الصعبة التي كانت تمر على سورية عموماً وعلى مدينة حلب بشكل خاص، ولكن شباب فرقة «كوميداس» تحدوا الظروف والصعاب وأيضاً تحدوا أنفسهم، وجاؤوا إلينا من حلب مقدمين أفضل عرض موسيقا».
من جهتها اعتبرت عضو في مجلس الشعب الدكتورة نورا أريسيان، أن العرض الموسيقي كان ناجحاً وموفقاً، وخاصة أن الفرقة قدمت مقطوعات متنوعة أثبتت من خلالها جدارتها وتميّزها في آن واحد، قائلة «أعتقد أن أهم عنصر بهذه الأمسية هي أن أعضاء فرقة «كوميداس» هم من السوريين الأرمن في حلب، حيث قاموا بالتدريب على فقرات الأمسية خلال فترة الحرب، وهي من أصعب الفترات، ولكن النتيجة النهائية أن الموسيقا هي التي غلبت الإرهاب، ومن ثم الموسيقا أقوى من الشر. أنا أشكر شباب الفرقة لقدومهم، وأيضاً هناك عنصر آخر مهم أريد التأكيد عليه، وهو التنوع الموسيقي الذي قدمته الفرقة، والمتنوع بين التراث الروسي والهنغاري والأرمني، فهذا يسجل لهم».
كنافذة مضيئة داخل الظلام
أشار قائد فرقة «كوميداس» المايسترو سركيس إسكانيان، إلى أن مواجهة الظروف العادية والروتينية ليست بالأمر الهين، فكيف إذا كانت الظروف المحيطة هي ظروفاً مفروضة على الإنسان وأيضاً في الوقت ذاته ظروف حرب، فالخروج من الحالة يتطلب الكثير من الصبر والاجتهاد والوقوف مع الآخر، قائلاً: «ربما الظروف الصعبة هي التي دفعتنا لنجتمع بعضنا مع بعض كفرقة وأن نحب بعضنا بعضاً بشكل أكبر، فالتعاون بيننا كان ضرورياً جدا، هذا كما كانت البروفات والتدريبات الموسيقية كنافذة مضيئة داخل الظلام، لأن في الظروف التي كنا نعيشها في حلب، كانت صعبة للغاية وفيها الإنسان يتحول إلى شخص عصبي، ولكن من خلال الموسيقا كنا نهدئ النفوس والأعصاب، ونحاول أن ننسى ما هو خارج المنزل، ونتحد بعضنا مع بعض وفي النهاية مع ربنا. وبالنسبة لبرنامج الحفل كانت المقطوعات منوعة منها العالمي ومنها من التراث الأرمني، وصحيح أننا أدخلنا مقطوعة جديدة إيرلندية، إلا أن الأمر لم يكن صعبا على الفرقة، بل على العكس بعد أول تمرين وجدوا أن المقطوعة ليست بغريبة، ومن ثم فهم ومن خلال هذه الألحان يعيشون تراث الشعوب الأخرى وهذا أمر جداً مهم».
عودة بالذكريات
من برنامج الحفل في الجزء الأول منه، قدم الشاب أرام خجادوريان أغنية الصفصاف، وعن مشاركته بالفرقة والحفل قال: «أنا من مواليد حلب، ووجودي في الفرقة يعني لي الكثير، وذلك لأنني بعد سبع سنوات من الحرب عدت إلى دمشق ووقفت على مسرح الأوبرا، وهذا الأمر الذي جعلني أعود بالذكريات إلى مسابقة صلحي الوادي، التي نجحت فيها وحصلت على المرتبة الأولى وذهبنا إلى بولونيا. إذاً عودتي ومشاركتي في الحفل أعادت لي الروح مع تلك الذكريات، وما أريد الإشارة إليه أنه ليس بالأمر السهل أن نظهر بمستوى كهذا بعد سبع سنوات حرب، كما أنني فخور بالمايسترو وبالفرقة أيضا».
الإشارة جديرة
تأسست جمعية الشبيبة الأرمنية تحت رعاية الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية عام 1931، وتكمن أهدافها في رفع مستوى أعضائها الثقافي والأخلاقي، ورفع مستوى أعضائها الفني، من خلال تنظيم المحاضرات والرحلات الداخلية والخارجية وإحداث المكاتب والفروع الموسيقية وعن طريق جميع الوسائل المشروعة الأخرى.
وتأسست أوركسترا الحجرة «كوميداس» عام 2005 في حلب، تحت رعاية كل من الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية وجمعية الشبيبة الأرمنية.
وكانت قدمت الأوكسترا أول أعمالها عام 2006 بإحياء أمسية موسيقية كلاسيكية بمناسبة مرور مئة عام على تأسيس الجمعية الخيرية العمومية، وكان ذلك في حلب على خشبة مسرح نظاريان.
خلال عامي 2009 و2010 قدمت «كوميداس» مجموعة من الأمسيات الموسيقية في مدينتي حلب وبيروت، كما شاركت في افتتاح لخزان الأيوبي في قلعة حلب بتقديم حفل موسيقي مميز.
كما قدمت خلال هذين العامين عدة أمسيات موسيقية في جمهورية أرمينيا بدعوة من رئيس مؤسسة «فريدروف نانسن» فيليكس باخشنيان، الذي قام بمنح الأوركسترا شهادة تقدير وميدالية ذهبية.
تقدم الأوركسترا بشكل دوري أمسيات موسيقية في كنائس حلب لمناسبتي عيد الميلاد المجيد ورأس السنة، كما تشارك في مختلف الفعاليات التي تنظمها الجمعية العمومية الأرمنية وجمعية الشبيبة الأرمنية، وكان لحفلاتها صدى إعلامي قوي وحضور مميز في الأوساط الفنية المحلية والعالمية.
وأيضاً تلقت عدة ورشات عمل بإشراف عازفين وخبراء عالميين أمثال عازف الكمان جان دير ميركيريان، وفاتشه هوفيان وغيرهما.
وعلى الرغم من سفر مجموعة كبيرة من العازفين بسبب الحرب، إلا أن ذلك لم يمنع الأوركسترا من الاستمرار والتقدم، وذلك بالاعتماد على الطلاب المتخرجين والمميزين في معهد آرام خجادوريان التابع لجمعية الشبيبة الأرمنية.
قاد «كوميداس» وانيس مبيض منذ عام 2005 ولغاية 2012، وبدءاً من عام 2013 وحتى الآن يقودها الدكتور سركيس اسكانيان، وتضم في صفوفها 22 عازفاً وعازفة.
وتقوم لجنة معهد «آرام خجادوريان» للموسيقا بالإشراف والتنظيم على مختلف الحفلات التي تحييها الأوركسترا.