الشهيد زهر الدين
| زياد حيدر
منذ أعوام، ربما ما يزيد على عشرة، لفت نظري زميل صحفي فلسطيني إلى صورة مرت مرور الكرام في وسائل إعلامنا المحلية. كانت انهياراً لأحد المباني السكنية حصل بشكل مفاجئ في أحد أحياء حلب، وشكل خبر الساعة حينها، وخصوصاً أن المبنى كان مأهولاً حين سقوطه، وأسفر عن ضحايا وجرحى. خصصت وسائل الإعلام المحلية مساحاتها لتغطية المأساة، لكن صورة، التقط زميلي معانيها، رغم أنها فاتتنا جميعاً، كانت الصورة من زاوية بعيدة نسبياً، تظهر مجموعة من عمال الدفاع المدني ومواطنين يقومون بعمليات سحب الأنقاض والبحث وحتى النبش بحثاً عن ناجين، وعلى بعد أمتار منهم مجموعة من المسؤولين المحليين، ببزاتهم الرسمية النظيفة، تتابع هذا المجهود، مصطفة جلوساً على كراسي بعضها وثير، تعطي التعليمات وتتابع.
سألني صديقي ساخراً، إن كانت الصورة حقيقية أم سينمائية؟ ثم تابع سخريته، ليس من الجالسين بقدر ما كان من المادة الصحفية التي تحدثت عن متابعة المسؤولين لـ«عمليات الإنقاذ عن كثب». حضرت هذه الحادثة بمعانيها، حين تلقينا النبأ المفجع باستشهاد اللواء عصام زهر الدين.
كان يمكن تخيل طريقة استشهاده ببساطة، فهو متقدم عن غيره في كل معاركه، وشهادات مرافقيه، أكدت ما نعرفه عن هذا النبل وإن كان سبب الموت انفجار لغم، تقدم نحوه أولاً.
منذ سمعنا كإعلاميين بعصام زهر الدين، للمرات الأولى، وقبل أن ينفتح على الإعلام والإعلاميين، كانت القصص عنه من هذا النوع، ولم تختلف تفاصيلها. وفي عام 2012، في خريفه، إن لم تخن الذاكرة، جاء أحد الزملاء من مهمة ميدانية لينقل لنا إعجابه الشديد بضابط ميداني كبير التقاه، في ضواحي دمشق، ولم نكن سمعنا باسمه من قبل، متحدثاً عن هجوم ناري حصل خلال حضوره برفقته، وكيف تصدى له في مقدمة المجموعة، والطريقة التي تعامل بها مع جرحاه من الجنود. اكتسب زهر الدين صفة القائد، من دون تنازلات، ومن دون سعي نحوها. كان نجماً، ولكن نجوميته لم تكن سوى تحصيل حاصل، لشهرته كقائد لا يخشى شيئاً أكثر من الهزيمة.
في كل الحروب يتميز قادة عسكريون، وفي كل المعارك هنالك منتصر ومهزوم، على المستويات العسكرية. لكن في معارك زهر الدين الوضع كان مختلفاً، فليس ثمة جبهة واحدة، ولا تكتيك واحد، ولا تاريخ نهاية، ولا أفق تسوية، ما كان يعرفه هو أن عليه أن يستمر في المضي متقدماً مجموعته من هذا الهدف إلى الهدف الذي يليه، وإن كان عليهم الصمود، فإنه أصبر الصابرين، وصموده في دير الزور، كما صمود غيرها من المعسكرات، يرتقي لمستوى الإعجاز مرة أخرى. ويزيد على شجاعته ومقداميته، الطريقة التي تعاطى بها مع مجموعاته العسكرية، فلم ينس منها أحداً، شهيداً كان أم جريحاً، وثمة قصص شخصية تروى على ألسنة كثيرة عن تدخله، وثقل اسمه الميداني الشهير، لتمرير معاينة مكلفة لأحد جرحاه، أو تأمين طرف اصطناعي، أو حتى رخصة نقطة بيع صغيرة لمعوق حرب. كيف يمكن لعقل وجسد أن يحمل كل تلك القضايا الصغيرة، كرخصة كشك لعسكري، إلى وضع إستراتيجية صمود وتقدم، في وجه أعتى أشكال البربرية العسكرية في التاريخ الحديث. باختصار، يكفي أن تحمل عقل وجسد قائد، وتترك لهما حرية التصرف والمبادرة.