كردستان من جديد
| عبد المنعم علي عيسى
ما كان يسعى إليه رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني، ارتد كلياً على غاياته، بل أضحى في المقلب الآخر السلبي لقضية الأكراد المركزية، فمن الناحية النظرية كان يجب، وكذا هو ما اعتقده بارزاني، أن تؤدي رفع راية الاستقلال، إلى لم شمل جميع الأطياف المكونة للمجتمع الكردي من أقصى يمينه إلى أقصى شماله، إلا أن ذلك مرهون بنجاح المسعى الذي يتطلب دائماً شرطين أساسيين: موضوعي وذاتي، إضافة إلى شرط ثالث لا يقل عن السابقين أهمية، ويتمثل بتوافر قيادة قادرة على تحديد اللحظة المناسبة لترسيخ ذاك الواقع ميدانيا، وفي ذلك قال زعيم البلاشفة وأول رئيس للاتحاد السوفييتي السابق فلاديمير لينين: «لو قامت الثورة في 16 تشرين الأول أو 18 منه لما نجحت»، ما يعني أن النجاح كان مرهونا بلحظة دقيقة توافرت حيثياتها في 17 من ذلك الشهر نفسه.
لطالما كانت تجارب الشعوب تقوم بطي كل الخلافات القائمة ما بين قواها السياسية، عندما يتعلق الأمر بمسألة مصيرية مثل الاستقلال، إلا أن تلك التجارب تقول أيضاً: إن الفشل كان على الدوام مدعاة لارتداد الأمر على عقبي القائم بالفعل وعلى كيانه السياسي وصولاً إلى قضيته المركزية، وهو ما حدث عملياً وتبلور سريعاً ما بعد استفتاء 25 أيلول الذي أدى من حيث النتيجة إلى تنامي قوة التيار الطالباني، نسبة إلى الرئيس العراقي السابق جلال طالباني، الذي يرى أن الاستفتاء كان إسفيناً دقه الخارج في الجسد الكردي، أما ردة فعل هؤلاء فكانت لافتة أو غير متوقعة وإن كانت غرابتها تزول إذا ما وضعت في سياق أولوية المطامح الشخصية نحو السلطة في صناعة القرار السياسي، وفي هذا السياق تقول تقارير: إن اتفاقاً تم التوصل إليه قبل عدة أيام ما بين بافيل طالباني، نجل جلال، وبين قيادات «الحشد الشعبي» الحليف للجيش العراقي ويقضي بوجوب تقسيم الجغرافيا الكردية في شمال العراق إلى قسمين اثنين، الأول يقع تحت سيطرة الطالبانيين، أو حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، ومركزه السليمانية، بينما الثاني تحت سيطرة البارزانيين، أو الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومركزه إربيل، من دون أن يعني ذلك أن السلطة في هذا القسم الأخير باتت مستقرة أو ينعقد لواءها للبارزاني دون منازع، ومن المؤكد هنا أن احتمالات خسارة هذا الأخير لها، هي أكبر بكثير من احتمالات بقائه فيها قياساً إلى المآلات الكارثية التي أفضت إليها خطوته الاستقلالية، فقبيلها كانت مناطق جبل سنجار وكركوك وخانقين تقع في إطار الحكم الذاتي القائم في شمال العراق منذ عام 2003، إلا أنها، أي تلك المناطق، عادت إلى سيطرة الحكومة المركزية ببغداد في أعقابها.
إن حال الانقسام التي أدت إليها قفزة بارزاني كانت موجودة في السابق، وإن كان بشكل هلامي أو هو غير محدد ناهيك عن أنها لم تكن معلنه، فتراصف القوى السياسية الكردية في الإقليم كان قد تمحور في كتلتين اثنتين باتت كل واحدة منها تتموضع في جغرافيا معينة أو هي تملك الثقل الأكبر فيها، ولم تكن تلك الحالة السابقة تنتظر أكثر مما جاء به بارزاني، في حين كان السعي المحموم للوصول إلى السلطة كفيلاً بترسيخ تلك الحالة الوليدة بل لربما لعب ذاك السعي دوراً هو الأكبر من سابقه في الوصول إلى ولادة جنين الكيان الجديد، إذ لطالما أثبتت كلتا القوتين الرئيسيتين بأنهما عاجزتان تماما عن الترفع فوق سقف المصالح الشخصية أو وهج السلطة الحارق، وهذا الواقع الجديد من شأنه أن يؤدي إلى توازنات داخلية هشة بما فيها تلك التي يستند إليها بارزاني في بقائه في سدة السلطة، ومن الممكن تلمس هشاشة هذي الأخيرة عبر ما ذهب إليه هذا الأخير في 21 تشرين الأول الجاري عندما وجه نداء قال إنه لأكراد الخارج وللرأي العام العالمي وطالب فيه هؤلاء بالتدخل لحماية الأكراد من حرب إبادة جماعية تشنها عليهم حكومة بغداد بدعم خارجي، ومن الواضح أن هذا النداء هو صرخة استغاثة شخصية بحتة، فما يحويه هو من النوع الذي لا تحتمله الوقائع أو الحقائق ولذا فإنه لا يتعدى كونه محاولة لكسب مزيد من التعاطف أو لاستعادة شعبية ماضية في تدهورها أو لإيقافها عند حد معين على الأقل عبر الظهور بمظهر الزعيم الذي يحمل على كتفيه هموم شعبه ومصائر مواطنيه.
ربما جاء هذا النداء بخسائر جديدة بعدما أضحت هذي الأخيرة بالجملة، فهو سيظهر وهن الركائز التي يقوم عليها عرش بارزاني، وفي الآن ذاته لن يؤدي إلى مكاسب من أي نوع كان، فالصيد في أعماق كهذه يتطلب جمهوراً مستقراً وفي الآن ذاته بعيداً عن ممارسة السياسة، وليس جمهورا منغمساً فيها، بل تدخل في زاده أو خبزه اليومي شأنه في ذلك شأن أي شعب لم ينجز مهامه الوطنية أو القومية بعد، على نحو حال الشعب الكردي الآن ونظيره الفلسطيني وآخرين عديدين.