محمد عثمان على خشبة مسرح المركز الوطني للفنون البصرية
| الوطن
تنطبق عبارة «الموسيقا، كالألم، لنُنصتَ إليها ونَصمت» التي كتبها الشاعر السوري نزيه أبو عفش على كل الموسيقا، لكنها تأخذ معناها بشكل أدق مع ما يشتغل عليه عازف البزق محمد عثمان، بحيث لا بد أن ينتابك وأنت تتابع حفلته أول من أمس في المركز الوطني للفنون البصرية بأن خير ما تفعله في حضرة قداسة الموسيقا هو الصمت والإصغاء والاستمتاع، فما قدَّمه مع شريكيه في الحفلة عازفة البيانو رنا جنيد، وعازف الإيقاع عفيف دهبر يتجاوز الجماليات التقليدية باتجاه صوفية عالية المستوى ارتشفناها رويداً رويداً مع مقطوعات الحفل الخمس.
أولى المعزوفات من تأليف محمد عثمان نفسه حملت عنوان «كونشيرتو» بحركتين الأولى معتدلة السرعة والثانية بطيئة، وفي كلتيهما امتزجت حوارية بين آلتين من طباع مختلفة، البيانو كآلة مكتملة الأصوات، والبزق كوريث أصيل لأرباع النغمة وجمالياتها، لكنهما تآلفتا ضمن جدلية وأخذ ورد، وكأننا في محاولة إقناع موسيقية لتطويع هذا القالب الموسيقي الكلاسيكي الغربي وتلوينه بصبغة شرقية، أو لنقل إن السعي اللحني انصب على نوع من الدِّفاع عن وجود أرباع النغمة في أي قالب موسيقي، فالنغمات الشرقية تفوق نظيرتها ذات العلامات المكتملة تمايزاً وفرادة، وبالطبع ما شهدناه من تبدل في سرعة المعزوفة جاء كانتهاء للصراع واعتراف بصوابية التوجُّه الموسيقي الذي أراده عثمان.
ورافق عثمان عازف الرق المبدع عفيف دهبر معززاً جماليات المقامات الشرقية تم في المقطوعة الثانية بعنوان «سماعي حجاز كار كورد» لمؤلفها «روحي الخماش»، ومُتنقلاً بين الكثير من الإيقاعات البسيطة والمُركَّبة وعلى رأسها إيقاع السماعي الثقيل، لينسج البزق مع الرق والطارة ما يُشبه استرجاعاً لأصوات أزلية مُتناغمة وكأننا في حضرة صوفية متكاملة الأركان.
رقص الموسيقا يستمر مع مقطوعة «فلامنكو» من تأليف موراييتو حيث يتوازى الإيقاع بحيويته مع الجمل اللحنية برشاقة أصابع محمد عثمان، ونقاوة علاماته على اختلاف أماكن عفقها على زند البزق، بحيث تصبح الآلة طوع روحه وانتشاءاتها، وهو ما يبرز بدقة كبيرة في مقطوعة «شهناز سياغي» لمؤلفها عادل كاراي، وخاصة أثناء الارتجالات التي أجادها عثمان، تاركاً جمهور مسرح المركز الوطني للفنون البصرية في رحلة أشبه بالحُلُم يتخللها خشوع أمام محراب الموسيقا العذبة التي تنسل بسلاسة من بين أوتار البزق لتُريحها إيقاعات «دهبر» في زخرفات جمالية، لتنتهي المقطوعة بما يُشبه «الكارما» البوذية وما يرافقها من ولادة جديدة للإنسان، فمن حضر هذه الأمسية فسيخرج منها كأنه خارج لتوه من رحم الموسيقا.
في مقطوعة «تشارداش» من تأليف الإيطالي «فيتوريو مونتي» التي يعتبرها الكثير من النقاد الموسيقيين رقصة غزلية بين الثنائيات، ولا يلبث البزق أن يُعطي السماح للإيقاعات لتبدأ دورتها التي تتكامل خلال، حيث تبدأ بمقطع بطيء يتبعه مقطع متسارع فيه الكثير من البهجة لتنتهي بسرعة كبيرة وحيوية عالية، تشكل صورة بصرية أشبه برقصات الغجر، يدعم تلك التصويرية في اللحن الانتقالات المقامية من سلم ري الصغير إلى ري الكبير، ثم الرجوع إلى ري الصغير والانتهاء بري الكبير.