الصحافة والأدب
| د. نبيل طعمة
جميل جداً أن نعتاد الصحيفة اليومية المفضلة، والأجمل أن نمرَّ على المكتبات، ونطّلع على جديد الإصدارات أو الكتب المترجمة، ومهم أيضاً أن نعتاد حملها والتباهي بأننا قرأنا موضوعاً، وتابعنا العناوين الكبرى اللافتة للنظر، ومن الضروري أن نتناقش حول أين وصلنا من فصول كتاب سياسي أو فلسفي أو حتى اجتماعي، وعند أي مشهد توقفنا من رواية أو قصة، أو كم مقطعاً شعرياً أثارنا وحرك مشاعرنا، إنه لأمرٌ نوعيٌّ أن يصل موزع الصحف، ويرمي على شرفاتنا، أو يقرع أبوابنا، ليسلمنا صحيفة اشتركنا بها، أو يوصلها إلى مكاتبنا، وحتى لأماكن عملنا، أو أن يضعها في صندوق بريدنا.
لماذا دخلت من هذا الباب؟ لأنني ومعي الكثيرون، بتنا نشهد السعي الدؤوب لإبطال مفاعيل الصحيفة والكتاب أمام سلطة الوسائط الاجتماعية السريعة والمتسارعة، بما تحمله من غايات وأهداف، ولكن يبقى لهما الحضور، لأنهما يمتلكان شطحات الفكر وشذوذ النفس، أحوالهما تنتصر على فعالية الإنسان، وتتعداها وصولاً إلى غير فهمها في فعلهما، يؤلبان العقول، ويقودان الأفكار الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية إلى المهوى الذي يسعيان إليه، وكل منهما يحمل فكرة أو أفكاراً، وإذا كانت الفكرة بحد ذاتها حركة، فكيف بأولئك الخائفين من الأفكار، وخاصة تلك التي يعبر عنها الأدباء والشعراء الفنانون والمفكرون وأصحاب الثقافة العالمية؟ حتى إنَّ أصحاب الأفكار السامية أو الخبيثة يلجؤون إلى عنواننا للتعبير ونشر ما يريدون الوصول إليه، فأفكار الآداب وما تنشره الصحافة تتحول إلى رصاص مطور لمناحي الحياة، يدمدم ويفتك في الجسوم بغاية إصلاح أجهزتهم الحيوية وتجميل حضورها بالمتناسب، لا بالمتنافر.
كيف بنا ننتقل من العواطف القلبية إلى الصور العقلية التي تعيد للقلب خفقانه الإبداعي؟ إن لم يكن هناك شعر وأدب فكيف بنا نطوِّر الأحاسيس الغافية؟ إذا لم تحضر لغة غير مألوفة لذهنية الحاضر، فكيف تمايز العين بين القبح والجمال؟ إن لم تعتد النظر إلى الرسوم الراقية، فهل هناك من يهتك أغشية بكارة الآداب والشعر، أو يغتصبها، ويلقي بسلطانه على الصحافة البيضاء بإرادة تحويلها إلى صفراء، ومن ثمَّ القضاء عليها؟ نعم هناك، وهؤلاء هم الراغبون في قتل الآداب وموت الصحافة.
تموت الصحافة لحظة انتهاء الصحفيين من الإبداع، ويموت الكتاب حينما يموت المؤلف، وبعدهما يموت القارئ، وكي لا تموت الصحافة، ومن أجل ألا نفقد الآداب، علينا أن نأخذ بالأمر الإلهي إلى رسوله «اقرأ»، وقرأ على العكس تماماً مما قاله المفسرون، وأخذ به العامة، وأنجز أُمةً، وقبله حضر السيد المسيح وقال في البدء كان الكلمة، وصنعت الكلمة أُمةً، كيف بنا لا نقرأ، ولا نبدع، ولا نتطلع إلى اليوم ومجرياته، ونتجه بالأفضل للغد؟
ليكن حسن التعبير عن الأحاسيس والمشاعر بحرية مطلقة، وليكن من دون ضير إلى جانبها تمجيداً للدين والسياسة والساسة، دعونا نخرج المكبوت إلى الحياة بشكل جميل وراقٍ، ربما فقدت الصحافة كثيراً من أضوائها، وكذلك ظهرت الآداب بعيدة عن العبقريات الجاذبة، ولأن العبقرية تعني الإبداع من الجوهر، ولا تعني كثيراً في الشكل أو المظهر على أهميتها، ولا تستحدث في الفروع، بل في الأصول، وتخترق العادات والتقاليد، وتنفض عن كاهلها عبء القرون، وتتقدم، تحضر عصرها مرسخةً للمجتمع سبل المستقبل، ومخرجةً الواقع من الأحلام والحب، من الفلسفة والتقدم والتطور، من التخلف، لذلك نسأل الصحافة والأدب عن هواة الأدب والشعر والموسيقا والرسم والنحت والعمارة والمسرح والسينما، أليست مصادر الإلهام من سماء كل واحد مما استوحاها من أحاسيسه وخواطره، ليكون له السبق على القارئين والمتمتعين بما يقدم، ويفسح المجال لنمو فكر الآخر.
من يرينا آلامنا، ويحرك آثامنا العنيدة المكابرة وندمنا الجبان واعترافاتنا الخجولة المنكسرة؟ ربما تغالي الصحافة والآداب في وصف الأخلاق، وربما تذهب لتجريد العريّ النقيّ، وربما تنعى فجوراً، وربما يكون هناك فيهم من هو أشد فجوراً ونسقاً، ولكن هناك حدوداً فيها تحتبس الألسنة، وتتبلد العروق عند كل تجاوز، من أصحاب الآثار التصويرية القادمة من الحدقات المتوهجة الثاقبة الناثرة للجمال والمتعة عند الحقير والرائع وما بينهما، من يقدر على فك الألغاز الأنثوية والمشاعر الذكورية وفتح أعتى الأبواب وإغلاق أقسى الملفات؟
ألا تعتقدون معي أنَّ الحياة مبارزة فكرية، لاعبوها يمثلون جميع الأحياء، وأنَّ من الضروري أن يكون اللاعبون قادرين على التمييز بين الألوان والألحان، بين المشاعر والظلال، بين من يكتب بالقلم، ويحسن قراءة ريشة الرسام، بين الهزل والجدل والخيال، بين الواقع والخرافة، من يصنع كل ذلك إلا الكتاب بمختلف ألوانه، والصحافة وما تحمله من أخبار سريعة وعاجلة تجمع حولها المهتمين بشؤون العباد والبلاد، بعد أن تحولت من السلطة الرابعة التي أطلقها عليها اللندنيون مذ زمن إنشائها، والآن أُطلقُ عليها السلطة الأولى، فهي المؤسسة والموجهة البناءة إن أحسن استخدامها، والهدَّامة إن تركت لعنانها.
مؤكدٌ أن هناك من يسأل: هل لدينا صحافة؟ أقول نعم، لكنها صحافة حدودنا، وهل لدينا كتاب؟ أقول نعم، ولكنَّ أفكارهم لم تخترق حاضرنا، وتسكن مستقبلنا، فكيف بها تخترق العالمية؟
إذاً.. وأمام حركة النهوض العالمي، على جميع العاملين في هذين الحقلين الإقلاع بهما، فالظروف جدُّ مواتية، والذي جرى ويجري لعالمنا العربي وبشكل خاص في وطننا الغالي العزيز ليس بالسهل، وفي الوقت ذاته ولّدَ التفكير وأوجد الفكر والأفكار والعناوين المذهلة التي من المفترض استخدامها مباشرة في إعادة إعمار الإنسان والأرض، حيث آن الأوان لفعل كل ذلك، أو السير إلى سبله، وإذا أدركنا ما نريد الوصول إليه، نجد أنَّ الصحافة والأدب يشعلان الحروب ضد مفاسد الإنسان وحقارته ودناءة أفعاله، يهاجمان الجبن وأحاسيس الكراهية، ويتعززان من الشرور، يقاومان معاً شهوة العين للمحيط وانحراف اللحم الإنساني لفهم وغرور التطلع للمادي والتكبر على مشاعر الحياة وجمالها، كيف بهما لا يحاربان كل هذه الصفات الرديئة والقميئة؟ وكيف بتلك الصفات السالبة لا تعمل على محوهما من الوجود المادي والفكري إن قدرت؟ ومؤكد لن تقدر.
أدعوكم أيتها السيدات وأيها السادة من كل الأجيال ومختلف المذاهب والمشارب والدرجات الفكرية والاجتماعية والسياسية الفاعلة والمنفعلة في هذه الحياة إلى مأدبة الصحافة والأدب التي تحمل الكثير من الكلام البليغ الحامل للنصح والتمتع بالحكم والأخلاق الراقية وإصلاح المجتمعات والأمم، ليقدم فيها ومن خلالها العلوم والآداب التي تتصف بالجمال والتأثير في الحياة، لا المضي منها، هكذا ومهما بلغت التكنولوجيا، وأبدعت في تحويل الصحافة إلى إلكترونية والكتاب كذلك، فإن الغريزة الشبقة للمعرفة والتعلم والعلم وحاجتها للحوار والثرثرة تؤمن بأنَّ الصحافة الورقية وكذلك الكتاب الورقي لا يمكن لهما أن يموتا، ولن ينتهيا أبداً، وطَلبُ تطويرهما بالشكل الجاذب غدا أكثر ضرورةً، وهذا يتم عندما تقوم الصحافة والكتاب بالإجابة عن الأسئلة المهمة والكبيرة التي يحتاجها القارئ والمتطلع إليهما، ويحلان له الكثير من الألغاز الحياتية، الأمر الذي يدفع للبحث عنهما أكثر والتعلق بهما، ويؤدي بدوره لإنقاذهما من الموت، فجمهور الصحافة والكتاب يصنع صناعةً من خلال تقديم صحافة متطورة، تحمل مساحةً تخترق فكر متابعها وحدودها في آن.