المهن الدمشقية العائلية
| أنس تللو
راجت في دمشق القديمة منذ قرون خلت مهنٌ توارثها أفرادُ العائلة الواحدة جيلاً بعد جيل فبرع في ممارستها الجدُّ والابنُ والحفيد حتى التصقت تلك المهنة بالعائلة كلها فغدت صفة دائمة لها ولقباً تُعرف به بين العائلات الأخرى مثل عائلة: الحلاق وترجمان والداية والبواب والحداد والسيوفي والشالاتي.
وتأتي أهمية هذه المهن القديمة من أمرين اثنين؛ أولهما أنها كانت تؤَمِّن كل حاجات المجتمع آنذاك من لباس وطعام وأثاث ومتع روحية ونفسية، ومن ذلك مهنة (العجَّان) وهو الفران الذي يقدم الخبز ومهنة (القصَّاب) أي الجزّار الذي يؤمن اللحم اللذيذ لمتذوقيه، ومهنة القطيفاتي الذي يؤمن القطائف وهي نوع من الحلوى… والقضماني ؛ صانع القضامة، كذلك (العرقسوسي) وهو الذي كان يطوف في الحارات صيفا ينادي على شراب العرقسوس… أما على صعيد الأثاث فقد كثرت العائلات التي امتهنت تلك المهن مثل: (آل الصباغ) وهي المهنة المختصة بصباغة الملابس وتعديل ألوانها، ومهنة (الصبان) وهي مهنة صانع الصابون ومهنة (القباقيبي) وهذه المهنة لا كما يُفهم من اسمها مختصة بصناعة القباقيب الخشبية فقط، بل إنها تقدم معظم أدوات المطبخ الخشبية الصغيرة ؛ مثل: مدقِّة الكبة- (شوبك) لرق العجين- هاون الثوم- مدقِّة الحمّص والباذنجان المشوي- ملاعق التحريك الخشبية الكبيرة- (الكفكير) الخشبي- علاَّقات الصحون- المنخل- قوالب الحلويات المنزلية… وكان القباقيبي هو الذي يصنع ( النمالي) التي كان الطعام يُحفظ بها وقاية له من الحشرات.
وعلى الصعيد الفكري هناك مهنة (الصحَّاف) وهو بائع الكتب، وكان مركزها في سوق المسكية عند نهاية سوق الحميدية… ومهنة العطَّار وهو بائع العطر، وقد تطورت هذه المهنة فغدا يبيع السكاكر ثم أصبح مختصا بالأعشاب الطبية.
أما الأهمية الثانية لهذه المهن الدمشقية القديمة فهي استقطاب السياح من كل مكان من أجل الاستمتاع ببهاء التحف الشرقية القديمة؛ إذ ما أكثر ما يتسابق الأوروبيون على اقتناء قطعة من قماش البروكار الدمشقي الذي يعتبر من أشهر وأفخم الأقمشة في العالم أو الأغباني المطرز بخيوط الذهب والفضة أو قطع الخشب المصنوعة من الموزاييك المزخرف أو المصدَّف اللامع.
سر الصنعة وتوارث الحرفة
لم يكن الأمر عشوائيا كما قد يُظن، إذ ليس عبثا أن نجد أن هذه المهن كانت تورث من جيل لآخر ؛ وما التصاق لقبها بالعائلة الواحدة إلا دليل على ذلك، فقد كان الأب ينقل عن الجد ما يسمى (سر الصنعة) ثم ينقلها الابن للحفيد… فتستمر الحرفة وتزدهر وتزهو بالحفاظ على السر… وكانوا يقولون إن كل صنعة معلَّقة بقشة، وهم يقصدون بها ذلك السر المحفوظ.
وقديما قالوا في الأمثال: (يلي بيغير كارو بيقل مقدارو)… ويبدو أنهم كانت لديهم ثقافة خاصة بالاختصاص سواء بالمنتج أو بمكان التسويق.
وإني ما أدري هل يكون ذلك بالوراثة الحقيقية أم أنه يكون بالممارسة، فهل كل نجار أو حلاق ينبغي أن يكون ابنه مثله.. ولقد تطور هذا الأمر اليوم حتى وصل إلينا فنجد الطبيب يميل إلى أن يكون ابنه مثله طبيبا، وحتى على مستوى الفن تنتقل (المواهب) بين الأجيال سواء على صعيد التمثيل أو الإخراج وما إلى ذلك.
مهن باقية ومهن اندثرت
غزت التكنولوجيا الحديثة المهن اليدوية القديمة فصمدت بعض المهن وظلت باقية على حين انقرضت مهن أخرى.
وأما التي انقرضت فمنها مهنة السلال، ذلك الذي كان يصنع السلال من القش، ومهنة الغلاييني الذي كان يصنع الغليون من التراب الأحمر المطحون إذ يجعله يتخمر في الماء ثم يعجنه جامدا ثم يصنع منه الغليون بواسطة قالب ثم يشوى في فرن معدّ لذلك… كذلك زالت مهنة الحزَّام ذاك الذي كان يحزم الأمتعة والبضائع بأسلوب فني مبدع يجعلها كقطعة واحدة بخيث يكون السفر مريحا.
وزالت مهنة الحكواتي؛ قضت عليها أجهزة التلفزيون تلك التي تكاد تزول حالياً بعد انتشار الموبايل.
وأما المهن الباقية فمنها: الحفار والصباغ والعرّاف (الذي يقرأ الكف).
كانت الحرفة مدرسة ثانية تشبه المدرسة الأولى، وكان كثير من الأهل يدفعون بأولادهم إلى تعلم حرفة ما في الصيف إما درءاً للفقر أو تربية للولد لكي يتعلم معنى الاعتماد على النفس… وكم وكم من مهن قديمة خرَّجت علماء جمعوا بين العلم والعمل.
وما سُميت المهنة (حرفة) إلا لأن الإنسان ينحرف إليها في أول حياته ويميل إليها فتغدو هي حياته كلها يتعلم منها ويكسب رزقه ويعلَّم أولاده.
أما اليوم فإن (الملهيات) التي يتلهّى بها أولادنا لا تُبقي لديهم (ذرة) من وقت ليلتفتوا إلى أمر آخر.
اليوم لم تعد هناك من قيمة للعمل اليدوي بعد أن غدا كل شيء جاهزا.
لقد جاءت تلك الأدوات الكهربائية تحمل معنى (الفخامة)، لكنها قضت أو كادت تقضي على تلك الأدوات القديمة التي تحتوي في جنباتها على (العراقة).
حتى على الصعيد المنزلي كان جرن الكبة يقدم الطعام أطيب بكثير مما تقدمه (فرامة اللحمة).
أظن أننا نحتاج إلى وقت طويل كي نتمكن من أن نحسب ماذا ربحنا وماذا خسرنا!…