ثقافة وفن

الذهب بين النقد والمجوهرات وبين طموح الإنسان

| منير كيال

يعد الذهب من أكثر المعادن الثمينة التي شغلت بال الإنسان وقد حرص الإنسان على امتلاك الذهب منذ فجر التاريخ، لما امتاز به هذا المعدن من عدم التأثر بظروف البيئة وطواعيته للرق والسحب والمد والتطريق، وقد بحث الإنسان عن الذهب في مجاري الأنهار ومصابها، وفي باطن وقشرة الأرض وفي العروق الصخرية.

وهذا البحث الدؤوب عن الذهب رافقه نزوع الإنسان إلى التجمل بالذهب، فالإنسان بطبعه محب للجمال لنفسه وفي عيون الآخرين، ومن جهة أخرى فإن الوثائق التاريخية تذكر أن للكنعانيين الفضل في استخدام الذهب في التجارة، يوم كانوا في رحلاتهم التجارية يبادلون على بضاعتهم بالذهب، فضلاً عن تزويد الصناع بالمادة الأولية من الذهب لصناعة الحلي.
وقد عرفت سورية صناعة الحلي في أنحاء متفرقة، كاللاذقية وأنطاكية وتدمر، ومنها ما كان يعود إلى ما قبل الميلاد.. ونجد بالمتحف الوطني بدمشق نماذج لروائع الحلي التي قام بصياغتها صياغ سوريون من مختلف العصور الإسلامية ومن ذلك: العقود والأقراط والأساور والخلاخيل. وهذا يدل على مدى تذوق الإنسان في سورية للحلي وإقباله عليها.
ويذكر الخياري بالقرن الثاني عشر للميلاد، أنه كان على يسار الخارج من باب جيرون (النوفرة) للجامع الأموي سوق يعرف بسوق الذهبيين.. وقد عمد الصناع بهذا السوق إلى صنع أو صياغة أكواب من الذهب والفضة، وأبدعوا المزيد في الحلي النسائية، أكان ذلك من حيث التفنن أم الشكل الأنيق لكل منها.
وإذا تأثرت صياغة الحلي بما تعرضت له سورية على يد التتار والمغول، وبما أخذوه معهم من مهرة الصناع من المهن، فإن صياغة الحلي ما لبثت أن استعادت نشاطها بعد استقرار البلاد.
ومن جهة أخرى فقد لعبت الحلي والمجوهرات دوراً كبيراً في حياة الناس، لأنها تعبر عن مفاهيم الإنسان الجمالية وكما تعبر عن الذوق الفني. وقد ذكر الأستاذ بشير زهدي أمين المتحف الوطني بدمشق مجموعة من العوامل التي تربط الحلي بأنماط الحياة والمعتقد والميثولوجيا، وعلاقة ذلك بالإقبال على اقتناء الحلي والمجوهرات، فضلاً عن الرغبة في التجمل بالحلي والمجوهرات هذه الرغبة التي تعد من الأمور التي فُطر عليها الإنسان، أكان ذلك على سبيل البذخ أم الترف أم على سبيل الرغبة بالتباهي أمام الآخرين، لأنهم يرون أن الحلي والمجوهرات مرآة ينعكس عليها المفهوم الجمالي، ولذلك فقد كان على صانع الحلي (الصائغ) أن يبدع ويبدع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، من أجل تلبية الطلب المتجدد على الحلي والمجوهرات لجميع المناسبات الاجتماعية كالأعراس أو المناسبات الروحية لما كان لدور الحلي والمجوهرات في حياة المرأة في المدينة أو الريف.
وإذا كانت المرأة تحرص وتحافظ على ما لديها من حلي ومجوهرات فليس ذلك من أجل الزينة فقط، وإنما اعتبار هذه الحلي والمجوهرات ذخراً إلى وقت الحاجة أي بمعنى أنها زينة وخزينة.
لذلك كان من التقاليد حتى عهد قريب اعتبار الحلي والمجوهرات جزءاً أساسياً من مهر العروس، وهي ترتبط إلى حد كبير بالمكانة الاجتماعية لكل من العروسين، وبالتالي فقد أصبح بالإمكان التمييز بين أشكال وأنماط الحلي المطلوبة وفقاً للمناسبة التي تقتنى من أجلها الحلي، وأن رواج اقتناء الحلي لدى الشرائح الاجتماعية ذات الفعالية الاقتصادية أكثر رواجاً من الشرائح الاجتماعية الأخرى.
وقد أدت الصفات التي يتحلى بها معدن الذهب من حيث عدم التأثر بالعوامل الطبيعية المتعلقة بالطقس، فلا يتعرض للصدأ ولا للتآكل، أدى ذلك إلى اعتبار هذا المعدن كمعدن للخلود، وانطلاقاً من هذه المقولة كان من الناس من يعتقد أن التحلي بالذهب من شأنه إعادة الشباب وإطالة العمر وإكثار النسل، كما أنه هذا الذهب يضفي على حامله مزيداً من العافية والصحة.
ومن الناس من يذهب إلى أن يمكنه أنه يرد عين الحساد والشامتين.
وإذا كان للمرأة أن تتزين بالحلي والمجوهرات، فقد اكتفى الرجل بالتزين بخاتم من الذهب، واقتصر تزين الرجل على معدن الفضة، وربطوا ذلك بأن تزيد الرجل بالذهب والتحلي به، سمة من سمات التخنث، وهذا أمر لا يليق بالرجولة، ومنه من يربط عزوف الرجل عن التحلي بالذهب بالاعتقاد أن لمعدن الذهب مغناطيسية من شأنها إضعاف الرغبة الجنسية عند الرجل.
ومن جهة أخرى، لابد من القول: إن ما يلحظه المرء في محال الصياغ بدمشق من روائع الحلي والمجوهرات إنما هو دليل على عراقة هذه المدينة بحرفة الصياغة أكان ذلك من الذهب أم الفضة.
وإذا كان لمعدن الذهب ذلك الدور في صياغة الحلي والمجوهرات فقد كان لمعدن الفضة دوره أيضاً، ذلك أن معدن الفضة من المعادن الثمينة، وقد كان له شأن في مجال الحلي وهذا ما جعل من الضرورة بمكان العمل على ضبط معايير الفضة للحفاظ على مكانته بين المعادن الثمينة وخاصة ما كان لهذا المعدن من سهولة الانصهار والتذويب، وقد دخل معدن الفضة في مجال الحلي النسائية وكان منها الأساور والعقود والأمشاط، والقطع التي تزين الملابس وخاصة صدر هذه الملابس، ونظراً لرخص سعر الحلي المصنوعة من الفضة فقد ساعد ذلك على اقتناء الحلي الفضية من شريحة أكبر من شريحة اقتناء الحلي والمجوهرات الذهبية.
وقد تأثر اقتناء الفضة لدى الكثير من الناس، بعد انتشار الحلي والإكسسوارات النسائية التقليدية، كما تأثر استخدام الفضة في مجال صياغة أوان وتحف تدخل في الاستعمالات الحياتية والمنزلية ودخوله أيضاً في أعمال الديكور الحديث، وكان للصاغة سوق خاصة لحرفتهم (كارهم) وللصياغ مشيخة لهذه الحرفة على غرار ما كان لسائر الحرف (الكارات) الدمشقية من شيخ كار لكل حرفة يعمل على المحافظة على أصول الصنعة وحماية الحرفة من الأغرار، أو سوء الإنتاج.
أما موضع سوق الصاغة، فكان جنوب الجامع الأموي، ويمتد حتى مدخل سوق البزورية من ناحية جهة الشمال وكانت دكان الصائغ على قسمين، القسم الأول للتصميم والتصنيع والقسم الآخر للعرض، ثم أصبح التصنيع خارج دكان الصائغ ولاسيما بعد أن انتشرت محال دكاكين الصياغ في أنحاء متفرقة من مدينة دمشق، وهذه المحال للعرض فقط.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن