عن الأنا… وسرّ الأنا
| إسماعيل مروة
لا تتردد كلمة كما تتردد كلمة أنا، فالمتحدث بالثانية القليلة يرددها مرات عدة، للتعبير عن رأيه، ولإسكات محدثه، ولإفحام آخر، وهكذا تصبح كلمة (أنا) لازمة للإجابة، للإنكار، للاستهجان، لتبرئة الذات مما يوجه إليها، للتباهي برأي أو قصة أو شعر، أو أي شيء آخر، حتى الأحمق يقول: أنا أريد كذا، وأنا أعرف كذا، والمحب يقول لك: اقبلني كما أنا، أقبلك كما أنت، وحين ينتابه إحساس يصلبك، وحين تحاوره يقول لك أنا كما أنا… ولا يدرك المتحابان المغفلان أن الحب لا يوجد فيه أنا، وإنما الأنا تتماهى في الآخر ليغدو هو أناك التي تفتخر بها، وأنت أناه التي يفتخر بها ويحبها غاية الحب، وأنه لو حافظ كل واحد على أناه لما تقارب اثنان، وما حصل أي شيء يستحق الاحترام.
بالأمس حدثني صديق مقرب بلوعة عما حصل معه من أنا من يحب، فهدهدته، خففت من ألمه الذي استمر كما أخبرني حتى مطلع الفجر، وأخبرته بأن كل ما عليه أن يقلب الصفحة محتفظاً بالمعاملة الطيبة والذكرى الحسنة… وصرت أقلب الأمر على وجوهه… ترى لو كنت مكانه فهل أفعل هذا الذي طلبته منه؟ هل أقدر على قلب الصفحة؟ واكتشفت في بحثي أن العاقل هو من يبقي كل الأوراق معلقة، لا يقلب واحدة، ولا يغير في مصير، ولا يندم على فعل مهما كان هذا الفعل، لأنه جزء من تكوينه، ومن تشكيله… قد تشكل الأنا طامة كبرى على الصعيد الشخصي، لكن من أقفل أبوابه لا تنتظر على بابه، ومن غادر الباب وقد صفقه وراءه لا تفتح الباب لسؤاله عن السبب! وهذا الأمر إن كان قاسياً شخصياً، فإنه سرعان ما يهرع أحدهم إلى جلسة صفا، والآخر يجد بغيته، وتضيع حتى الذكرى الطيبة بين شخصين.. إن كان الأمر قاسياً شخصياً، فما بالنا عندما يكون عاماً؟ ما نقول عندما تتفوق الأنا على نحن؟ هل الفرد هو الأهم وأناه؟ هل يلغي الفرد أناه ليلحق بالمجتمع (نحن)؟
لماذا يتبادر إلى ذهننا العربي والشرقي حتمية الصراع بين أنا ونحن؟
من الممكن ببساطة مطلقة أن يحقق المرء أناه في إطار جمعي، وعندها يرقى المجتمع الجمعي بارتقاء مجموعة الفردي، لكن الصراع الحتمي الذي افترضناه يحقق ثقافة إقصائية تلزم الضعاف، فهذا الرجل وهذه المرأة، لابد من تغذية وتغذية راجعة للصراع بين أنا كل واحد منهما لتبقى الثقافة الذكورية مسيطرة ولا مجال لتغييرها بكل السبل الحضارية وغير الحضارية.
أنا… ضمير… وما أدرانا ما يصنع هذا الضمير؟ ضمير فرد تجاه ذاته ومرضها، ضمير فرد تجاه الآخر، ضمير فرد تجاه مجتمع متكامل… وهكذا.. وإذا نظرنا إلى الحالة السورية تملكنا العجب، وأدركنا أننا لسنا في حديث لغوي أو نفسي، فجلّ الذين نراهم اليوم يناهضون النظام وسورية هم من النظام، بل كانوا الجزء الفاعل من هذا النظام، وكثيرون منهم عندما كانوا في البلاد وفي مواقعهم لا يتحدثون إلا بالأنا، بل بعضهم حاول أن يحصر الوطن في ذاته، فأنا أرى، وأنا أسجن، وأنا أحاسب…! وفي المقابل يوجد عدد ممن يتسنمون المواقع اليوم داخل سورية، وداخل النظام لا يزالون يتصرفون بثقافة الأنا… فأنا من يعمل، وأنا من يبقى، وأنا من يقرر! ولو نظرنا في طرفي المعادلة، فإننا سنقف عند عداوات شخصية، يغيب عنها أمران مهمان هما: النظام والناس، فالمفترض أن النظام مؤسسات لا أفراد، وأنا كثير من المسؤولين جعلت الفكر المؤسسي وراء ظهورهم، وأنا المعارضين كانت ضد الفكر المؤسسي، وأناه اليوم لتطويبه ملكاً على الناس الذين يتحدث باسمهم، فهو يتحدث باسم الناس، وليس من حق أحد أن يرفض حديثه باسمه، ويغيب السوريون عن المشهد ما بين أنا وأنا.. وتحكم الأنا صراعاً محتدماً لا تحلّه الأنا.. مسكين من يحمل أناه ويتجول بها.
إن كان محباً خسر حبه، وصار مدمناً للألم والندب، وتحول إلى كتاب تتعاور صفحاته الأيدي التي قد لا تجيد قراءته، فلا هو قادر على النكوص للاحتفاظ بكبرياء أناه، ولا هو قادر على الخروج من دوائر الوجوه الشوهاء القذرة التي تريد أن تقتنصه، وأناه جعلته مشاعاً لكل مجدوري الوجوه…
وأناه حرمته أن يكون في وطنه إنساناً محباً، فقد رضع بأناه ثدي الوطن حتى لم يبق في الضرع أي شيء مهما كان بسيطاً، وجلس هناك يجتر أحلامه، فأناه لا تريده إلا أن يكون ممتطياً صهوة المواقع والمسؤولية، وقفاه أدمن المنصب والكرسي، ولم تقنعه أناه أنه في غفلة من الزمن وصل، وفي صحوة أزيح، وهيهات أن تعود الغفلة، فقد كان لغيره وامتطى، ولن يتنازل عنه له… أرأينا ما تفعل الأنا وما فعلت؟
مع أن تراثنا العربي، إن كنا نقرؤه، وإن كنا نؤمن به! فهو مملوء بالحكم التي تحاول أن تجعلنا مدركين للأنا وحجمها، والأقوال كثيرة، لعل ما جاء في الأثر أهم ما في الأمر (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) إلا أن أحدنا يلقيه على الآخرين، يعظ الآخرين ابتداء من الساسة، وانتهاء بعلماء الدين، فهذا السياسي يريد من الناس أن تحتمل، أن تتقشف، أن تتدبر أمرها، وهو في الوقت نفسه لا يشعر بما هم فيه، فلا نقل يؤذيه، ولا بيت يرهقه، ولا.. ولا.. لذلك أناه مرتاحة، وعندما يعفى من منصبه تتضخم الأنا وحاجاتها، وقد يتحول إلى ضفة أخرى..! وأحدهم كان في موقع، وحين أعفي كنت ألتقيه عند بائع الخضر فيشكو ويشكو ويختار الأرخص، ويحدثني بغضب ونقمة، ولكنه عاد بعد سنوات إلى موقع أعلى فما عدت أراه، ولم يعد يتذكر اسمي عندما طلبته مرة واحدة لتهنئته!
وهذا العالم أو رجل الدين يطلب من الناس الزهد، وهو يباهي بمائدته وتنوعها وغناها، وفي عز الأزمة على سورية كان أحدهم، وهو من علماء الدين يقول: إن مائدته أفخم من مائدة المحافظ والوزير!
غريب أمرهم، من قال لهم إن مائدة الوزير والمحافظ يجب أن تكون فخمة؟ من أين جاء هذا بهذه الفخامة، سواء كان مسؤولاً أم عالم دين؟
إنها الأنا يا أصدقائي..
عندما بدأت الأحداث والحرب على سورية، شكا عدد من المعارضين من أن الدولة اعتدت على ممتلكاتهم، وفجأة رأينا البيوت والقصور والفلل والسيارات الفخمة، فمن أين جاءت؟ لا أحد يدري..
صارت ملك أناه، وبعضهم كان يتسول سندويشة على رصيف الهوب هوب..!
ولو قدر له أن يعود، فسيعود لينشئ مملكة جديدة لأناه، ولخلفه من الأنا والأنا والأنا..
البناء سينهار يا صديقي
وأنت سترحل
لن تنفع سيارة الذهب أو ما ماثل..
جاء في الأثر: ما زاد مال إلا من شح أو حرام، أي ما زاد عن المنطق.. وعندما يصبح الواحد عندنا لا يعنيه إلا بيت يؤويه، ويكون لائقاً، وما يستره وكرامته فستنهض سورية، فلنسأل (أنا) كل واحد قبل وبعد، ماذا كان وماذا صار؟ عندها لن يكون ما يجري عملية تجميلية، وتصبح (الأنا) و(نحن) عاملاً متكاملاً في نهضة سورية وأبنائها وحضارتها..
لا تستمع لمن يقول أنا.. فمن يقل أنا صادق.. فهو الكاذب.
ومن يقل أنا المحب.. فهو الخائن
ومن يقل أنا الوطني.. فهو العميل
أمن عبث حذّر الأثر من (الأنا) وسرّها؟