الإبداع والدولة لن تنتهي الخصومة … هل صار صوت المؤسسات الثقافية اليوم صوتاً ناشزاً يستدعي الهمس؟
| أحمد محمد السّح
لم يستطع الفن السوري رغم المحاولات المتعددة أن يحدد له هوية واحدة تميزه عن غيره من الفنون التي تجد لها حضورها في المحافل الدولية، حيث إنّك تستطيع في أي محفل أن تميّز الفن الياباني أو الهندي أو الإيطالي أو سواه، لكنك لن تستطيع أن تجد صبغةً واحدة للإبداع السوري. وتبدو هذه المشكلة مرتبطة بشكل وثيق بمشكلتين أساسيتين، الأولى هي المبدع نفسه، والثانية علاقة المبدع مع الدولة، وعلاقة الدولة بالإبداع. قد يبدو تحميل الدولة هذه المسؤوليات وإعادة طرحها إجحافاً في زمنٍ باتت فيه الدول مهددة بوجودها، ولكن الإيمان بعامل الإبداع ضرورة للبقاء الوطني وللاستمرار بمعنى الهوية؛ يجبر أي مهتم على أن ينخرط في تحديد مصير الفن والإبداع في ظروف الحروب الكبرى لاقترانه الأساس في الوجود والاستمرارية.
صار صوت المؤسساتِ الثقافية
صوتاً ناشزاً
يبدو المبدع اليوم أكثر ابتعاداً عن أخيه المبدع، فالمثقفون والمبدعون بمختلف صنوف الإبداع يعيشون في غرفٍ انفرادية يستنشقون أنفاسهم ذاتها، ويعيدون السلام على أنفسهم كل صباح، وحين يحاول أحد المبدعين – وغالباً من الشباب – أن يوطد أواصر الصداقةِ مع صديق له في الإبداع تجدهما يتحدّثان في كل شيء إلا التمحيص والتدقيق في مقتضيات الإبداع وموجباته، ولربما عُمل على هذا الشيء من الداخل قبل أن يكون من الخارج، فلقد شعرت السياسةُ دوماً أن الإبداع عدوٌّ لها فلجأت إلى تدجينه، أو عزله حتى صار صوت المؤسساتِ الثقافية اليوم صوتاً ناشزاً، وصارت كل كلمةٍ ينطق بها أحد أبناء هذه المؤسسات، تستدعي الهمس حول الأسباب والنتائج والجهات ( المختصة ) التي وجّهت هذا الكلام، وليس انتشارُ مصطلح ( مثقفو السلطة ) إلا تعبيراً عن هيمنة الصوت للمثقفين حدّ اندثار البصمة الشخصية لكلٍّ منهم.
نقاء الثقافة ودورها المجتمعي الخالد
يُكثر المبدعون من الانغلاق على آرائهم، ويكتفون بما تعلموه خلال سنوات دراستهم الجامعية، فالفنانون التشكيليون مثلاً نادراً ما يقرؤون كتاباً أو بحثاً جديداً عن اختصاصهم والتطورات التي لحقت بهذا الاختصاص. فلا يبحث المبدع عن تجارب جديدة سواء في الموضوع أم التكنيك ويكتفي بما هو عليه لتجده بعد فترةٍ قصيرة يقع في مشكلة التكرار الممل والاجترار الواضح في آرائه، وربما يعود ذلك إلى الثقة الزائدة التي يمنحها لنفسه، كما أن الكسل يكون مردّه إلى انعدام الدعم من أي جهةٍ مسؤولة ومختصة لأي خطوة إبداعية مهما كانت أهميتها، ما يورث في قعر نفس المبدع – الحساسةِ أصلاً – شكلاً من أشكال اليأسِ في تحفيز نتاجه وتحريض حسه الإبداعي.
لا يمكن أن نلقي باللوم كاملاً على المبدع، فلا بد من الانتقال إلى الجزء الثاني من المشكلة وخاصة في علاقة الدولة مع المبدع، ونظرتها إلى الإبداع بشكلٍ عام، تتضح مسؤولية الدولة من خلال فهمها أن المبدعين هم البناة الحقيقيون لصرح الحضارة الذي يبقي حضورها بين الأمم، فشراء الدولة للوحات الفنانين مثلاً ومنحوتاتهم وحضورها في المتاحف الكبرى والساحات العامة والمطارات، وتحويل الذائقة البصرية للمواطن إلى ذائقة عالية الحساسية تجاه الفن وجمالياته، تسعف في جزء من أداء دورها لتحفيز المبدعين في هذا المجال مثلاً؛ كما أن تجميع الفنانين والابتعاد عن ممارسة التفرقة التي تسود دائماً، للهاث وراء المناصب ونيل المكاسب، يدفع بالعملية الإبداعية ككل إلى الخروج من متاهة الغرف المغلقة، ويجعلها أكثر انفتاحاً تجاه نقاء الثقافة ودورها المجتمعي الخالد، يُذكر أنه قد أنشئ سابقاً المجلس الأعلى للآداب والفنون ووضعت ميزانية خاصة لمشروع التفرغ للفنانين، ويتلخص هذا المشروع بأن يمنح الفنان الممتاز راتباً شهرياً مقطوعاً وهو في بيته من دون أن يمارس أي وظيفة روتينية خلال سنتين ويتفرغ للفن فقط، ثم يقيم معرضاً لتقييم عمله أثناء تفرّغه لينظر في أمره، لكن هذا المشروع لم يخرج إلى النور وبقي على الورق. أضف إلى ذلك حالة شبه انعدام لدور المجلات والدوريات الثقافية، إنما كثيراً ما يتم استغلالها لتكريس أسماء معينة لتغيب هذه الأسماء مجرد تركها للعمل أو المنصب الذي يتم تكريسها من خلاله. فهذا الفساد الثقافي تسبب في غياب النقد العلمي الموضوعي، وتحويل النظر عن أصحاب المواهب لأجل إرسالهم في بعثات علمية للدراسات العليا لمنحهم مزيداً من الكسب المعرفي لتحفيز إبداعهم، ما يجعلهم رواداً حقيقيين للنهضة الإبداعية فتعود ثقة الجمهور بهم وبفنهم وتعود حالة الاحترام للفن والفنانين والنقد والنقاد، وتكتمل حلقة الوصل بين المبدع والجمهور.
إعادة ربط العلاقة
بين الإبداع والمجتمع
تكثر الأفكار التي نستطيع من خلالها إعادة ربط العلاقة بين الفن والإبداع والمجتمع، فلو رجع أحدنا إلى جميع ما صدر من الطوابع التذكارية في سورية لوجدها تكتنف نقصاً كبيراً في هذا الفن الجديد مثلاً، فمن الخطوات يمكن دائماً دعوة الفنانين إلى تصميم طوابع تذكارية، وتصميم أغلفة الكتب واعتماد الجديد المتجدد دائماً لخلق فرص إبداعية جديدة، والاقتصار على الموروث لمن رحل من فنانين وما تركوه لنا من إبداع، فلا مانع أبداً من نحت قصائد على صخور في الساحات العامة والحدائق تنحفر في ذاكرة الجمهور وتصحح رؤيته وذائقته ضمن هذه الفورة الإلكترونية من المعرفة السطحية التي تنتشر ويشجع عليها دعاة الاستهلاك في العالم، فالثقافة خير، وخير الثقافة هي التي تعيش مع الناس وللناس.